من الغلاف الخلفي: في يوم شتائيٍ ماطر من عام 1985 غادر كلٌ من أمينة وفريد مسكنهما في حي بيضون في بيروت إلى منطقة عين الرمّانة القريبة قاصدَين المعلّم برجيس، خبير أجهزة التسجيل الماهر. وحده برجيس قادر على إنقاذ ذلك الشريط القديم، آخر ما تبقّى لهما من بيت الجبل بعد التهجير. لو كانت أمينة على علمٍ بما ستُصادفه مع زوجها من أحداث غريبة في بناية المصلّح يومذاك، لامتنعت حتماً عن خوض غمار هذا المشوار. ولو لم يكن فريد مُتشبثاً بالحفاظ على أصوات من فُقد من الأقارب والجيران في حمّى القتل والمذابح، لما صبر على ظلمة الدّرج المُخيفة. ظلمة دامسة تمحو وجوه اليوم ومن خلالها تنكشف أطياف من اختفى أثره قبل سنوات، حياً كان أو ميتاً، آدمياً أو عفريتاً.خيار 1:
لمح فريد علامات جافّة تتشكّل على وجه أمينة كأنّها تتلقّف ببرودةٍ ما تواطأت معه على إعطائه من تفسيرٍ حول الشريط. رنت إليه، أومأت بصمتها صوب الصورة المعلّقة على الحائط قبالتهما. صورة متوسّطة الحجم بالأبيض والأسود مؤطّرة بالمعدن الفضيّ المُزخرف. سيّدة في الثلاثين من عمرها. عينان فاتحتا اللون تبرزان من تحت الزجاج بالرّغم من الضوء الخفيف. زرقاوان. أو خضراوان ربّما كعينيّ المصلّح.

بيروت عام 1983 ــ أرشيف الصليب الأحمر

شردت أمينة في نظرة تلك المرأة الشّاحبة تُجالسهم في هذا الصبّاح الصّامت. صامتٌ إلا من المطر الغزير في الخارج ورنين أدوات برجيس تكسرُ السكينة كلّما ألقى بها على الطّاولة أمامه.
لو لم يعد نور الكهرباء للانقطاع في هذه اللحظة، لتجرّأت أمينة واستفسرت عن صاحبة الصورة، أو كانت تعمّدت مثلاً أن تتأكّد من هويتها بسؤال غير مباشرٍ، فتقول للمصلّح تحبباً أنّه شبيه بوالدته حفظها الله له. انقطع التيّار، فلاذت بالصمت. وعوضاً من أن ينفعل برجيس مثل فريد الذي عاد ليقف مُتأهباً مُتبرّماً، حافظ على هدوئه واكتفى بتوجيه يديه صوب لهيب مدفأة الغاز مُواصلاً تمليس السلك بحركة رتيبة مُتباطئة.
-هذا السلك فيه شقوقٌ. ما سأفعله هو تنظيفه وإعادة تجليس أطرافه ليركب حول دائرتي الشريط. من يعلم إذا سيبقى صالحاً لننسخه من جديد. هي مُغامرة، نكتشف ذلك بعد قليل.
صمت الزوجان أمام شرح المصلّح كأنّه الطبيب خارجاً من عمليةٍ قد تستغرقُ مدّةً لم يُحسب لها حساب.
-خمس وعشرون ليرة.
قالها حاسماً ببرودة تعدّت منطقه الجاف في التعاطي. ثم همهم:
-الدولار تعدّى السبع عشرة ليرة.
لا يعرف العطف طريقاً إلى قلب هذا الرّجل قالت أمينة. سيرضخ فريد لاقتراحه، وييأس من مجادلته على بدل أتعابه. سينتظر أن يصدر حكمه الأخير حول الشريط كالصغار. سينزوي مثل ذلك الملاك الذي حلما به يوماً طفلاً لهما، يجلسُ عند حافّة البيت حائراً يترقّب هديّته في يوم العيد الكبير بعد انقشاع السماء وأفول العواصف.
استدارت إلى الصورة مُجدداً على وقع هطول المطر المتصاعد كزخّات الرصاص. انفجر دوي الرّعد، فشخص الثلاثة نحو الشق الأفقي في أعلى باب الشرفة، مصدر النور الخارجي الوحيد. علا صوت الطبول. أصغت أمينة إلى قرعها، قرعةً بعد قرعة، ضربة بعد ضربة. كأنّها الدربكّة. دربكّة أولاد السمّان، أصحاب السوء كما لقبهم عمّها الكاهن موبخاً. فتاتان شقيّتان وشقيقٍ يافع تديرانه كما تشاءان في سهرات القرية. يسحبون الدربكّة خلسةً من بيتهم، يعزفون عليها إيقاعاً صاخباً، كأنّه المطر، كأنّه الرّصاص... تذكّرت باقي كلمات الأغنية.
إبليس زاير حارتنا، زايرنا إبليس
شفتو حامل هالبلطة، رابطها بكيس
وعالسّاحة ميّل يرقص،
دخلك يا عمي مرقص،
طلاع دراج، ضوِيلو سراج
شعال الزرع، حروق حراج
ولمّا عاد النور، رصدت حركة برجيس يجول برأسه صوب الطاولة والمصباح الكهربائي، ثمّ ينطق بجملٍ مُتلاصقة لا تخلو من الاستياء، مفادها أنّ شركة الكهرباء تحاول تغذية المنطقة الغربيّة على حسابهم. على حسابنا قال. توقّف عن مسح السلك كأنّه تذكّر شيئاً ما.
-أربعون. نسينا الخمس عشرة ليرة ثمن الشريط.
اهتزّ شيء ما عند أمينة. لمعت لديها صورٌ وأفكار. لم تعد تتماسك.
-لطيفة كانت جارتكم، لقد دعتنا إلى فنجان قهوةٍ قبل قليل بانتظارك. خلنا أنّنا لن نجدك حين قرعنا الباب.
-كُنت في الحمام.
أجاب بنبرةٍ ناشفة يشوبها التذمّر مُتابعاً عمله، من دون أن يخفي عن أمينة بعض استغرابه. وما هي إلا ثوانٍ حتّى علّق عملية المسح ضاغطاً بسبّابته فوق الإبهام بعصبيّة كمن لسعته سياط كلامها المستفيض:
- جارتنا من؟
-في الطابق الأسفل.
طرح برجيس الشريط جانباً مُحدّقاً بها هذه المرّة.
-بيت مارون غانم!
-مُمكن، أجابت أمينة بتردّد لافت.
-قد تكون واحدة من أقربائهم. اليوم جنّاز الأربعين في الجدَيدة.
تفاجأت أمينة بما يقوله نادمةً بعض الشيء على استرجاعها اللقاء بالجيران، وكأنّها استشعرت أنّ أمراً مبهماً قد حرّك فضول الرّجل أمامها. غير أنّها ظنّت أنّه سرعان ما سينصرف إلى عمله مُجدداً، فراحت تحسب حساب ما قد تُضيفه من كلامٍ... تحدّثه عن طقس كانون المُتقلب أو عن عيد البربارة الذي صادف مروره قبل أيّام قليلة، علّها توفّر على جلستهم موقفاً غريباً آخر.
- توفيت يوم عيد جميع القدّيسين. لا يزال إعلان الوفاة مُلصقاً عند بابهم. لم يُحضّروا ورقة لقدّاس الأربعين.
-الله يرحمها. أردف فريد.
ران صمتٌ قبل أن تتجرّأ أمينة على السؤال بنبرة تحشرج لها صوتها:
-مَنْ من غير شرّ؟
-الأمّ. لقد باتوا اليوم أربعة شبان مع والدهم، رقيب في الجيش.
تلفّظ برجيس بكلامه مُتنهداً، ثمّ استلّ الشريط من جديد.
- من فتح لكِ الباب يا أمينة؟ سألها فريد بنبرةٍ عالية كأنّه يستجوبها.
- سيّدة طويلة القامة من جيلنا تقريباً، تربط منديلاً على رأسها معها فتى صغير، حفيدها على الأرجح.
وبعد أن كان برجيس قد استأنف عمله بمسح السلك، عاد لتعليقه فجأةً. نتأت عيناه الخضراوان وهو يرمق أمينة بنظرة مذهولة، كأنّه اكتشف لتوّه سراً ما. نظرةٌ كادت أن تخزها، وتعيد إليها الصداع الذي أصابها وهي تعتلي الدرج قبل قليل.
* فصل من رواية بعنوان «الرّجاء استبدال الأكاليل» للباحث والمهندس في الترميم مازن حيدر تصدر قريباً عن «دار الآداب» (بيروت)