في 20 آب 2023، أفرجت «محكمة الصلح» في القدس المحتلة عن عروة شيخ علي (22 عاماً) من مخيم شعفاط، وأحالته إلى الاعتقال المنزلي. وبرّرت القاضية عدي بار طال قرارها بإخفاقات شرطة الاحتلال وإساءة معاملة عروة وتركه قيد الاعتقال في مركز الشرطة أربعة أيام قبل نقله إلى معتقل، فيما تظهر الصور آثار عنف شديد، ومن ضمنه ترك وسم يشبه «نجمة داوود» على وجهه، فيما لم يخضع لفحص طبي بالرغم من قرار المحكمة بإجرائه. كما أمر القاضي عمير شاكيد بتحويل القضية إلى قسم التحقيقات مع أفراد الشرطة (ماحاش).

استبَقت شرطة الاحتلال الشكوى ببيان أنكرت فيه «مزاعم العنف» و«وجود أي عداء عنصري» من قبل ضبَّاطها وجنودها الـ 16 الذين شاركوا في اعتقال عروة، واتهمته بـ«مقاومة الاعتقال» رغم أن الوحدة استخدمت «قوة معقولة»، وأن «الكدمة على الأرجح ناجمة عن قطعة من ملابس أحد الضباط [ربَّاط بسطار أحد الجنود الذي ضغط بحذائه على وجه المعتقل، والذي صادف أنه على شكل نجمة سداسية، كما يظهر في صورة نشرتها الشرطة]». وقد جاء في الشكوى، التي قدّمها عروة 22 آب 2023، أن أفراد الوحدة، الذين وصفهم بأنهم مافيا، غطوا عينيه بقطعة قماش، وربطوا يديه وقدميه في منزله، بحضور زوجته وأطفاله، قبل أن يضع ضابط مسدساً كهربائياً على رأسه ويشعر بشيء ساخن على خده الأيسر ترك على وجهه وسم «نجمة داوود». لا تحتاج جريمة العنصرية إلى خبير، سواء أكان دوساً بالحذاء على وجه إنسان أم وسماً بالحديد والنار، لكن مدير «معهد علوم الطب الجنائي»، أفنير روزينغيرتن، نقض بيان الشرطة، إذ «لا توجد ملاءمة بين العلامة على وجه المعتقل ورباط الحذاء الذي عرضته الشرطة» وأن «رباط الحذاء لا يمكنه إبقاء علامة كهذه مع هوامشها النازفة دماً، بل هي ضربة مباشرة». كما أكّد نائب مدير «دائرة الاعتقالات في الدفاع العام»، داني بار دافيد، أنه «ليس مألوفاً جداً أن 16 شرطياً شاركوا في اعتقال عروة وجميعهم لم يشغلوا الكاميرات التي توثّق عملهم» رغم الإعداد المسبق لعملية الاعتقال.
إلى هنا تنتهي ملابسات الحادث، ولكنه لم يكن «حادثاً»، إذ إن العنصرية هي سمة «أزلية» في سلوك الحركة الصهيونية ودولة مستوطنيها. فبين صك الانتداب في عام 1921، و«قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل» في عام 2018 والذي يعرِّف «إسرائيل دولة قومية للشعب اليهودي»، مرَّت مياه وسخة كثيرة تحت جسر العنصرية في فلسطين: تطهيراً عرقياً ومكانياً وثقافياً. وإذا كان نهار الحرية لا يحتاج إلى دليل، فإن ليل العنصرية لا يحتاج إلى دليل كذلك، وبالتأكيد لا يحتاج إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379 في عام 1975 الذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، ولا يُمحى بالنفاق العالمي الذي ألغى ذلك بالقرار 46/86 في عام 1991 كشرط لمشاركة «إسرائيل» في مؤتمر مدريد للسلام.
ليست هذه المرة الأولى التي ترقِّم فيها دولة المستوطنين الفلسطيني وتشوِّه وجهه: حياً أجيراً، أو شبه حيٍّ أسيراً، أو فاقداً للحياة شهيداً في الثلاجات ومقابر الأرقام. ففي 10 آذار 2004، علَّم «أمن الكنيست» خوذ العمال العرب داخل ورشة بناء في الموقع بإشارة X حمراء «لتسهيل تمييزهم»، لغرض القنص إن اقتضى الأمر. وألزمت «سلطة مصلحة السجون» الصهيونية الأسرى الفلسطينيين بلباسها البني، وحاولت استبدال أسمائهم بأرقام، وأرغمتهم على العدد اليومي، وصنَّفت بعضهم «سغاف (סג»ב)-خطر عالٍ للهرب». واحتجزت شهداء الثورة الفلسطينية في «مقابر الأرقام»، واعتقلت جثامين الأسرى الشهداء لإكمال المحكومية في ثلاجاتها. ورقَّمت المعتكفين في المسجد الأقصى في 5 نيسان 2023 بدلاً من أخذ أسمائهم. واشترطت للإفراج عن جثمان الشهيد الفتى وديع أبو رموز، من سلوان في القدس المحتلة، والمحتجز منذ أربعة أشهر، حصر عدد المشاركين في الجنازة الليلية بـ 25 من أهله فجر 31 أيار 2023، ووداعه خارج المقبرة، وحجز الهواتف النقالة، وتعليم معاصم المشيعين بأساور من قماش لضمان عدم مشاركة غيرهم في الجنازة.
لا يرغب الجنود الصهاينة في النظر إلى وجوه ضحاياهم. لم ينظروا في وجه إياد الحلاق قبل إعدامه، ولا في وجه أمه-الصرخة بعد تبرئة القتلة. فالحرب جعلت العدو بلا وجه ليسهل قتله، ونسيانه، والإفلات من العقاب على جريمة القتل وجريمة نزع الإنسانية عن الضحية التي صارت جسداً بلا وجه وشخصاً بلا ذات. أما جندي «حرس الحدود»، المسمَّى شرطياً، فلا يريد أن ينظر في وجه عروة، فهو لا يحسن قراءته، بل يريد أن يجعل وجه عروة يتكلَّم بلغته هو: نجمة داوود... يريد أن «يغير خريطة وجهه» بالتشويه (deface)، والطمس (efface)، والوسم (overface). فكيف نقرأ وجه عروة، وكيف نقرأ وجه الجندي-الحذاء؟
يعلِّمنا درس التاريخ أن المستعمرين الصهاينة لم يكونوا أول من وسم البشر وعلَّمهم ورقَّمهم، ولكن التاريخ لا يفسِّر الفعل. فقد وسم المستعمرون البيض عبيدهم كقطعان ماشية بشرية للتمييز بين عبيد مالكٍ وعبيد آخر، والتمييز بين الممتثلين منهم والعصاة. بالنار والحديد، حرفياً، وُسِم العبيد بالأحرف الأولى من أسماء مالكيهم، وبالأحرف الأولى من «جرائمهم». وسِم سارق قوته على يده، والهارب على رجله، والمتمرِّد على جبينه، وبُترت الأيدي، وجُدعت الأنوف، وقُطعت أوتار الأرجل... ولاحقاً تسامح البيض مع السود، واكتفوا بالجلد. وحين عضَّت أوروبا البيضاء نفسها، وبلغ جنون عقلانية التنوير وسياسات الهوية أوجه، علَّمت النازية ضحاياها اليهود بشارة صفراء كأعداء للشعب، ووسمت على سواعدهم أرقاماً بحبر الجريمة.
أما درس الفلسفة، فيعلِّمنا أن لا مقارنة بين الناجين والضحايا، ولا بين المستوطنين والمواطنين، و«لا قداسة لجلَّاد»، ولا تكميم للمعاناة... لكنَّ من يعلِّم الآخر، يعلِّم نفسه، وهذه من مفارقات تاريخ يطول شرحه. لا تستقيم المقارنة بين هول محرقة صارت ذاكرة، وهول نكبة مستمرة. هكذا تكلَّم إلياس خوري. أما محمود درويش، فقد ذهب إلى «الوجه» مباشرة في «حالة حصار»، وخاطب القاتل: «لو تأملت وجه الضحية، وفكَّرت، كنتَ تذكَّرت أمَّك في غرفة الغاز، كنتَ تحرَّرت من حكمة البندقية، وغيَّرت رأيك: ما هكذا تستعاد الهوية!» هنا، لا ندري إن كان درويش قد تقصَّد، في أوج فظائع «إسرائيل» خلال انتفاضة الأقصى، غمز قناة فيلسوف الوجه، إيمانويل ليفيناس، بأن «الفلسطينيين لا وجه لهم» كما ألمحت جوديث بتلر في قراءة متأخرة وضعت فيها «ليفيناس ضد ليفيناس».
فالوجه، لدى ليفيناس، يجعل للآخر سيادة على الأنا، يأمرها فتجيب إن أحسنت التحديق في وجه الآخر العاري و«منزوع السلاح» مردّداً كلمة الله: «لا تقتل». أما إن حدث القتل، فإما يكون القاتل نكرة (شخصاً بلا ذات)، وإما أنه لا ينظر في وجه الضحية، فتكون هي (شخصاً بلا ذات). ولذا، فالوجه القادر على الدفاع عن نفسه بالتوسُّل، هو الضعف المطلق والعنف المطلق، عنف إلزام الآخر بعدم ممارسة عنفه باسم الله على وجه الآخر الذي «كرَّم الله وجهه». وجه الآخر يفرض على الأنا مسؤولية كبرى في الامتثال لأمر الله: لا تقتل، لا تعذِّب، لا تتوحَّش. يصير الوجه صفحة أولى في كتاب الله، ناطقة بكلمته، لا تحيل الناس إلى قدِّيسين، بل تحيل أعينهم إلى آلات مقدّسة. هنا، يستبدل الله حضوره العمودي في وصية «لا تقتل» بحضور أفقي في وجه الآخر الذي يضيف إلى الوصية ياء المتكلِّم «لا تقتلني»، من أجل أن يظل كلانا إنساناً: أنا وأنت. ليس مطلوباً منك ألا تقتل وحسب، بل أن تحافظ على الآخر حياً، وإن استلزم الأمر موتك أنت لأجل آخرك حين تصير الذات حارساً على الآخر لا جلاداً... وهذا ما يحوِّل العلاقة مع الموت من علاقة وجودية إلى علاقة أخلاقية.
لكن صوفيّة ليفيناس يفسدها تفريقه المادي بين «الآخر» المطلق و«الجار» العدو في معرض ردِّه على سؤال في مقابلة إذاعية شهيرة في عام 1982 بخصوص وجوه الضحايا الفلسطينيين ومسؤولية «إسرائيل» عن مذبحة صبرا وشاتيلا. وبالإضافة إلى ميوعة موقفه من الصهيونية (كحركة خلاص «قومي») و«إسرائيل» (كحمار للمسيح)، الميوعة التي يشترك فيها مع معظم فلاسفة الأخلاقيات اليهودية، فإن التفريق بين الآخر والجار، والألعاب التأويلية حول مفاهيم الذنب والضحوية والبراءة والمسؤولية... فتحت الباب أمام اتهامه بالنفاق، وضيق الأفق الديني-القومي، وعدم الانسجام الأخلاقي حين يتعلق الأمر بجرائم «إسرائيل».
ولكن حين تصير كل القيم في الهواء en l›air، على رأي ليفيناس، لن يجادل أحد في قداسة الله التي في وجه «الجار» الفلسطيني الذي لم يحظَ بعد بمرتبة «الآخر». ولن يتوقف الكثيرون أمام وخز بتلر لليفيناس «بدبوس من عسل» في أنه أنكر على الفلسطيني وجهه، أو أنه أسكت وجه الفلسطيني الذي صار استثناء من قاعدة «الوجه يتكلَّم»، فلم يعد «الحدث الأساسي في التاريخ». ولكن روح ليفيناس لا تزال هائمة في المسكوبية التي يتردد في ظلماتها سؤال منتقديه: «أكلُّ الوجوه سواء»؟ بين «لا-وجهية» الفلسطيني عروة شيخ علي، ولا-وجهية الجندي الصهيوني الذي غيَّبت العنصرية وجهه واستبدلته بالحذاء حتى إشعار آخر ليفلت من العقاب: أرادوا تغييب وجه الفلسطيني، فغاب وجه الصهيوني. يبتلع ليفيناس تنهيدته، ويحدِّق في ما يشبه تأويل نجمة داوود على وجه الحذاء، ونجمة داوود كاملة الأوصاف على وجه عروة، ويردّد: «الوجه يتكلَّم»، فيما يلقي عليه جندي بلهجة أشكينازية التحية: «بوكغ توف ليفيناس»، ويصوّب بندقيته في وجه العالم، ويضغط على الزناد.

* شاعر وناقد من القدس