1. طقس رَفْع الغَنمأتذكر ذلك الطقس في طفولتي، حين كانت تهطل الأمطار مدراراً وتعشوشب الجبال، يأخذ أهلنا قطيع الغنم إلى مرتفعات الجبال حيث فرقان الشوّان - مضارب رعاة الشياه. يظل القطيع هناك طوال موسم الخصب، وفي موسم التزاوج تحديداً، وكان ما يشبه المقايضة بين الفلاح والشاوي: ارعَ غنمي ولك في كل شاة تلد سخلاً أو سخلة!
كان يُطلق على هذا الطقس: رفع الغنم، أي رفع قطيع الشياه إلى الجبال لترعى طوال موسم الخصب في مقايضة تبدو لي عادلة بين الشاوي والفلاح: تعود الشياه إلى الفلاح من المرعى وقد امتلأت لحماً وشحماً تتبعها سخالها، وفي المقابل صار للشاوي بدوره قطيع جديد من كل شاة ولدت في الموسم.

2. شَهّودْ
المرعى: حينما كنت صغيراً كانت عندنا شاة، دعتها أمي شَهّودْ، كان لونها بُنياً، مائلاً إلى الأرجواني مثل معظم شياه الجبال، بين مفرقي شعرها خط أبيض أشبه بشاهد بين عينيها، لهذا ربما دعتها أمي شَهّودْ أي صاحبة العلامة، حسبما جرت العادة في تسمية كل شاة.
كانت شهّود «الأم الروحية» للقطيع، لها حضور «هوشيّ» بين الشياه والعائلة، لذا أحببناها جميعاً: «شَهّودْ راحت المرعى/ شَهّودْ جات من المرعى».

أنور سونيا ــــ «الرُّسْتَاق» (أكريليك على قماش ـــ 2022).

وحين كانت شَهّودْ تتأخر أحياناً عن العودة من المرعى بعد المغيب، كانت أمي لا تنام ليلتها، وفي الصباح الباكر توزع العائلة في رحلة بحث عن الشاة العزيزة بين الجبال والأودية.
المرض: ولكن حدث أن أصيبت شَهّودْ ذات شتاء بمرض جلدي في عنقها، أشبه بورم خبيث ينز دماً وقيحاً، أخذت أمي تعالجها بما أتيح لها من أدوية ذلك الزمان: ورق وثمار سُمر وسِدر وقصد، تدقّها، ثم تقوم بفرك مسحوقها على موضع الالتهاب، فتشفى شَهّودْ، لكن المرض كان يعاودها ثانية في شتاء العام التالي، فأصبحت أمي في شُغل عمن سواها.
صبرت أمي لمرض شَهّودْ، ليس لأن الشاة ولّادة، وليس لأنها أم القطيع فحسب، بل لأن هناك علاقة حميمة بينهما لا يعرفها سوى رعاة الشاة.
يوماً ما، فاجأ أبي أمي برغبته في أخذ شَهّودْ إلى «حلقة» العيد لبيعها، بعد أن تطاول المرض عليها سنوات عدة، وكانت تلك فكرة صادمة لأمي لدرجة أنها لم تحر جواباً!
الثغاء: كان صباحاً مُربكاً ومُرتبكاً، تحلّقت فيه العائلة حول سيارة «البيك أب» التي ستقل شَهّودْ إلى حلقة السوق البعيد، وحين أخذت الشاة ترايم (تثغو، بالدارجة المحلية)، أخذت أمي تبكي، فصارا صوتاً وصدى، وأُركبت شَهّودْ «البيك أب»، فتباعدت ذراعاها عن ذراعي أمي. في «البيك أب»، ركبتُ بين أبي والسائق، ظاناً أننا آخذون شَهّودْ لمرعى بعيد يشفيها مما هي فيه. كنت طوال الطريق أتأملها ملتفتاً إلى الوراء، وثغاؤها مثل الحنين، والطريق يباعد بينها وبين المرعى والدرس (حظيرة الماشية)، وبينها وبين القطيع الذي أخذ يثغو بدوره مثل جوقة ترتل نشيد الوداع.
الحلقة: لا أتذكر تفاصيل المناداة على شَهّودْ في الحلقة، ولا أين كان أبي ساعتها، كل ما أتذكره مشهدٌ لن أنساه طوال حياتي: نظرة ذلك البدوي الذي «اشترى» شَهّودْ وأخذها بالأحضان مبتعداً، وهو يبتسم ابتسامة غامضة، في اللحظة التي أحسست بأبي يقودني من يدي إلى وجهة معاكسة لوجهة البدوي وهو يقول ممازحاً: «خلنا نتمشى في السوق، بشريلك لعبة غاوية».
فسألته، وأنا أشير إلى البدوي ملتفتاً إلى الوراء، مستنكراً أخذه الشاة المولولة: «أباه، هين ماخذ ذاك الرجّال شَهّودْ؟» ولمّا لم يرد على سؤالي، رفعت بصري إلى وجهه فرأيت دمعة متحجّرة في مآقيه، ولم أفهم شيئاً.
العودة: غفوت في رحلة العودة إلى البيت، ولا أتذكر ماذا اشترى لي أبي ليشغلني عن سؤالي حول شَهّودْ، كما لا أتذكر بعدها شيئاً حتى الآن سوى مرايم (ثُغاء) شَهّودْ، وهي تبتعد في أحضان ذلك البدوي الذي أحفظ تقاطيع وجهه حتى هذه اللحظة، والذي بدا لي أنه غير مُصدّق بالغنيمة.
وصلنا وقت الغداء، ووجدنا أمي واجمة، وما إن رأتنا حتى ذهبت إلى الدرس، وكنت أسمع صوتها خفيفاً خفيضاً، كأنه يردّد صوت شَهّودْ، حينما كانت تتعلق قدماها الأماميتان في غصن «سمرة» وهي ترعى في الجبال.
الذكرى: وكأن ذكرى التقى فيها الواقع بالحلم، حين التقى فيها أبي ذلك البدوي صدفة في السوق، بعد مضي قرابة عام من غياب شَهّودْ، فتحادثا عن أخبارها وأخبارهما، ثم مضى كل إلى سبيله، في الوقت الذي يحدث فيه، بمناسبة ومن غير مناسبة، أن تتذكّر أمي شَهّودْ، خاصة في الأعياد، وتقول لأبي بندامة الكُسعي: «يا سلام لو شَهّودْ هنا». فيرد أبي يما يشبه التعزية: «كانت كما الغزالة». فترد أمي محدثة نفسها، وكأنها تتمسّح بشَهّودْ: «الغزالة كانت كماها»!

* مسقط/ عُمان ــــ الاسم المستعار الذي ينشر به الكاتب مقالاته ومجموعاته الشعرية.