نستهلّ زاوية «سجل الشعر العربي»، بإحدى أجمل شطحات «رسائل الوحشة» (دار الفارابي ــــ 1979)، المجموعة الشعرية الأولى التي كرّست الراحل محمد عبد الله (1946- 2016) شاعراً يقول تجربته الخاصة في الشغب والحرية لجيل جديد من الشعراء أفرد جزءاً من حريته للقمع والمنع، وأطلق جزأها الآخر متسللاً بين ركام عظمة ومجد السابقين وبين هزيمتهم. في «شطح» التي غنّاها الفنان مرسيل خليفة، تختلط الرقة في لغة محمد عبدالله أو «دون كيشوت» الشعر اللبناني الحديث بـ «رغبة الإفساد وتعلن رغم مراسيم الاحترام والانحناء، رغبة في التمرد باتت لا تحتمل التأجيل». تكمن ريادة القصيدة كما المجموعة على خريطة الشعر العربي الحديث في ما أوضحه محمد العبدالله نفسه في مقدمتها نيابة عن جيل الشعراء القلق ولا سيما من عرفوا بشعراء الجنوب أواخر سبعينيات القرن الماضي، ممن جمعتهم قضايا الوطن والحرب ليتلمّس كلّ منهم طريقه الخاص لينفرد بتجربته في ما بعد: «إننا نبتكر حرّيتنا قيداً قيداً وفضاء فضاء بينما المقص يتدخّل بين الشهيق والزفير وإننا مضطرون الآن لحريتنا كلّها. إننا على عتبة الشعر».
أندريا ديفيا نونو ــــ «حبّ» (أكريليك على خشب ــ 2020)


اتركي أهلَكِ وأرضَكِ وملابسَكِ القديمة،
واتبعيني
انظريني أَبني لموتنا الحامضِ الصغيرِ بيتاً صغيراً
وقولي: هذا سيّدي الصغير
الذي ينبغي أن أتعرّى له كلّ ليلة
قبّلي يديَّ المضطربتين وراء آخر ثيابكْ
وقولي بصوتك المصقول بالعبادةِ والانكسار المغتبطْ
خُذْ جسدي العاريْ
يا امرأة الجسد الذي يتعاقب على الغزوْ
هذا أنا بعد الآهة المتقطعة الطالعة من بئر الصدرْ
حاضرٌ أبداً للنظر الطويل إلى عينيكِ
افتحيهما على مهل ومدّي جسور النوم الطويل
إنني أتصيّد النعاسْ
إذا ملتُ، مِيلي معي
خبزنا واحدٌ آخر الليل
آخر الليل حين يودّعُنا آخر الأصدقاء
آخر الليل حين نلملم أشياءنا
آخر الليل حين يسدّ منافذه الليل
آخر الليل حين ينتظر الليل شيئاً
وثدياك يكتملان في آخر الليل.

إن همساً يعود إلى ألف عامٍ مضى سيجعلك خبز قلبي
ويحشرني الوقتُ فلا تسأليني
على مهل أنحلّ ضوءاً ويكشفني الضوءُ
خوضي بعينيّ حتى دمي
أقيمي عمارات زهوك بين عظامي
كُلي وجعي حَبّةً حبةًّ
اسأليني
- أتأخذني سيدي؟
- إنني أصطفيكِ
■ ■ ■
كفّاكِ قبل الفضّة بقليل
وقلتُ: يناسبك من المعاطف الورديّْ
وعيناك جميلتان كأنّهما ضدّ عينَي الملكة.
■ ■ ■
وقلتُ يناسبكِ من الأشجار الكرزْ
ولم تكن تعرفني أشجار الكرزْ
بل كانت حبّات الكرز الحمراء تحت الندى الصيفيّ
تتلألأ ولا تبالي
وكانت الحديقة أيضاً تدخل تحت قدميكِ ولا تبالي
وكنتُ.. أدوسُ العشبَ ولا يبالي
وكنتُ أبالي كثيراً
وكان هذا فوق الاحتمالْ
وقلتُ: أحتمِلُه
■ ■ ■
وكان الدرجُ طويلاً
كان الدرَج درجةً درجةً
وقلت: أصعدُ الدرَجْ
يداك عميقتان كغصنين في الفضاءْ
وقلت: أعطيك يديْ
وقلتُ: أسمّيك الوردةْ. وأجعلك زرقاءْ
ولم تكوني الوردةْ. ولم تكوني زرقاءْ
ولم أسمّكِ، ولم أقُل شيئاً
■ ■ ■
يناسبكِ من المعاطف الأزرق
ويناسبني التلويح البعيدْ
يا ذاهبة الزرقة
فراغ الفضاء هو فراغ اللونْ
ولم أكن أتبعكِ
بل كنت تبتعدينْ
ليس عن الصخرِ ولا عن الماء ولا في مسافات الزبدْ
ولا نحو ولا في اتجاه
ولم أكن أتبعكِ
بل كنتِ تدخلين في الاحتمالْ
وأدخلُ في الخسارة والنقصانْ.
■ ■ ■
أصابعكِ البدءْ
أصابعكِ لغةٌ كاملة ولغة كاملةٌ ضدها
وأصابعكِ وقتٌ مهدور في المصافحة والتلويح والخواتم والكتابةِ
وقضم الأظافرْ
وأصابعكِ وقتٌ ضدّ الوقت
أصابعكِ في فمي، إصبعاً إصبعاً. تحت أسناني
وأصابعكِ بدءٌ محاصر بالنوايا الطارئة والتيّار المفاجئ
ولم يكن جسدك بحراً لكي أسبح. ولا أرضاً لكي
ازرع. ولا فاكهة لكي آكُل.
ولا ماءً لكي أشرب. ولا سريراً لكي أنام.
ولا إلهاً لكي أصلّي.
يناسب جسدكِ في الخطورة السمّ، وفي الحلاوة
الإجاص، وفي الحرارة الرمل، وفي التشهّي النوم، وفي المسالمة
الثلجُ في السهول الواسعة
ويناسبني الندى آخر الليل وعبور الأحصنة البطيئة
أن انهض طازجاً في عالمٍ طازجْ
هكذا تكون الدروب مملكةً مهجورة. وأكون
جاهزاً لاستلام سلطاتي.
هكذا يكون الصمت مسموعاً...
وكذلك الخطوات!
■ ■ ■
طلع ذراعاكِ من الليل ولم تعرفيني
أقمتُ المسافة أمامكِ وسألْت:
هل أنتِ الوردة؟
أطلقتِ حولي قابليّة العجين
وأخرجتِ من أكمام قميصك حقول الزهرْ
ورقصتِ أشياء ممنوعةْ ومنعت الأشياءْ وتوقفت
...ثم انتشرت كحقول القمحْ!
شعرُكِ؟ يا مضيعة الوقت!
تركضين في القمح على القمح بين سنابل القمحْ
وتفتحين الممرّاتْ
تنهضين على شفير زمانٍ غائبْ
تمشين في ثلج الذاكرة
وتجرحين مساحة الثلجْ
قمحٌ على ثلجْ. ثلجٌ على قمحْ
تطبقين ذراعيك على شيء ما
وأنقطع دون ذراعيك كخيطٍ طويل. كبَكرةٍ مكرورة.
تتنفسين المدى
وأتنفس الوحشة وفوات الأوانْ
وأطعن في الهواءْ
أينما تقعين تقيمين الأسوارْ
وحيثما تكونين تتكاثف حقولك ِ
يا ملكة!
■ ■ ■
وتشبهين نفسك كثيراً
تشبهين نفسكِ حتى أرتعشْ
ولا تقبلين التكاثر. ولا تقبلين التوالُدْ
وتوهّم قطفكِ أشدّ فتكاً من زلزلة
وتوهّم خسارتكِ أشدّ هولاً من قيامة
تحرقين وتحترقين
فحمٌ على فحمْ
وقال القلب:
لزمن يشتعل...أعددتُ الفحمْ
للوردة وما بعدها أعددتُ الوقت
وكان القلب جارحاً متلألئاً
كقطعة من الألماس الأزرق.