خلال حياتي الحافلة بالعواطف المبالغ فيها، رأيت نساءً كثيرات يبكين بسبب الحب بأشكاله المختلفة، وأساليبه المبتكرة في تعذيب القلوب، من دون المساس بهيبة مكانته وكونه أكثر كائنات الحياة براءة وعذوبة.وعندما كنت أحضنهنّ لنتبلّل بدموعنا المشتركة، أقول لهنّ بلهجة العارفة التي خبرت كل شيء: «هذا الحزن ليس وشماً دائماً، تابعن البكاء، وسيسيل حزنكنّ مع الدموع ويختفي».
كنّ يصدقنني، ونخيط معاً تلك الجراح الغائرة، وحين تنزف مجدّداً بسبب حادث ما، لا نلوم الحوادث، بل رداءة الخيوط. ثمَّ، وبرحمة الوقت الذي يمضي، نتأمّل الندبات التي تسبّبت بها الخياطة غير الماهرة، ونقول: «لا بأس، كنا شجاعات كفاية كي نحب!»
لا أعلم إلى أيّ حدّ يمكن للدموع أن تشكّل بدايةً جيدةً لرواية يرغب شخصٌ ما في قراءتها، لكن، لا مناص من الاعتراف بحقيقة وجود دموع كثيرة في حكايتي، أنا المولودة في بلاد وقعت في مصيدة حرب لا ختام لها، وبعيبٍ خلقيٍّ في القلب، يهيّئني للموت حباً في أيّة لحظة، وباسمٍ يوحي بقدري المرسوم منذ ولادتي: حبيبة.

يوسف عبدلكي ـ «أم الشهيد» (فحم على ورق، 2015).

لكنّ هذه الدموع ليست نذيراً بحكاية مليئة بالغمّ، كما يبدو عليه الأمر، لأنّ حكايتي تفيض بالحب، حب من النوع الذي يصلح أن يكون حكاية تروى.
حين أخبرت أبي أنّني سأكتب رواية، هزّ رأسه وضحك، ولم يكن صعباً عليّ، أنا اللصيقة به منذ ولادتي، أن أفهم معنى هذه الضحكة؛ إنّها ضحكته التي حافظ عليها طازجة طوال حياته، ويطلقها أمام تصرّفات النساء اللواتي يعتبرهنّ، من دون أي استثناءات عادلة، مجنونات وخياليّات وعاجزات عن العيش بسلام.
• لماذا تفكّرين في كتابة رواية يا ابنتي؟ أتذكّر أنّكِ كنتِ تكرهين كتابة وظائفكِ، واستدعيت مرّات عديدة إلى المدرسة لهذا السبب!
• أريد أن أحكي حكايتي للناس.
• هل سألتِ أحداً منهم إن كان مهتماً؟
• أنت أول شخص أسأله.
• هل ترين هذه الغيوم السوداء؟ ثمّة عاصفة قادمة، عليَّ أن أعيد الدجاجات إلى القن، قبل أن تمرض تلك الخبيثات.
نعم، هذه كانت طريقة أبي في مساندتي، والتي، فضلاً عن نجاحها في إحباط همّتي، جعلتني أطرح أسئلة وجوديّة حول الجدوى من إخبار الحكايات لآخرين، في حين يمكن روايتها ببساطة أمام مرآة.
والإجابة القلبيّة الوحيدة التي راحت تلحّ عليّ، هي رغبتي في أن تبقى هذه الحكاية حيّة في ذاكرة شخص آخر، يمكن أن يذكّرني بها حين أصبح عجوزاً خرفة، وأنسى اسمي وأسماء الذين أحببتهم، وكلّ ما حدث لي في تلك الأيّام التي كنت أملك فيها قلباً مرحّباً باحتمالات الحب، ووصفات طبخ سرّية أورثتني إيّاها أمّي، وتولّت مهمّة تلبية حاجاتي العاطفيّة منذ ولدت، وكانت البديل المنطقي لديّ عن استخدام الشعر حين أحببت. في ذلك اليوم، افتقدت أمّي كثيراً، وفكّرت في أنّها لو كانت هنا لشجّعتني، ولربما أطلقت زغرودة طويلة، فأمّي التي تحتفي بكلّ شيء، كانت حتماً ستطلق في وجهي عصافير فرحها المعافى والنظيف، من دون طرح أسئلة أو استفسارات تثير الكرب، وكانت ستدعوني، وهي تهزّ رأسها، للتسامح مع فظاظة أبي، التي كانت تحسبها ميراثاً ثقيلاً من سلالته التي يمتلك جميع أفرادها قلوباً صغيرة الحجم، وعقولاً مشتّتة تحدث فيها أشياء كثيرة لا علاقة لها بما يشغل بال النساء، وإن كنت أرجّح أنّ الأمر ليس متعلّقاً بسلالة أبي وحجم قلوبهم فقط، بل هو قدر خاصّ بالرجال عموماً، ناجمٌ عن نقص الأعاجيب التي يمكن لهم اختبارها، مقارنة بتلك التي تشكّل حياة النساء، بدءاً من أعجوبة صناعة الأطفال ومراقبتهم وهم يتشكّلون داخل أحشائهن، وصولاً إلى أعاجيبهن الصغيرة الآتية من قدرتهن الفطريّة على منح الحياة أيَّ شيء يمرّرن أصابعهن عليه، ويمكن مشاهدة تلك النزعة الكماليّة بمجرد مراقبة سلوك امرأة أمام أشياء الحياة الناقصة: قميص ممزّق، أزرار مخلخلة، دهان حائط متقشّر، سلّة مثقوبة، جرح مفتوح، وجع قلب، دموع لا تتوقّف عن السيلان.
لكلّ نوع من هذه الأنواع التالفة تميمة خاصّة، تستخدمها المرأة كي تعيدها جديدة ولامعة كما كانت في بدء تكوينها. وتتربع على عرش كلّ هذه الأعاجيب، موهبتها الأصيلة الخاصّة بتحويل أيّ مكوّنات حياديّة تقع تحت يدها إلى أطباق ساخنة، ومخبوزات تفوح برائحة البهجة.
وأنا التي ولدت في منزل، يرى ساكنوه أنّ أهم غرفة فيه هي غرفة المطبخ، تعوّدت عندما كنت طفلة صغيرة تتدرّب على استخدام حواسها، أن أفتح فمي كي تضع أمّي فيه ملعقة مليئة بشيء ما تطهوه، فأهزّ رأسي بطريقة تؤكّد لها أنّ اللذة المرغوبة قد تحقّقت، وإن لم يهتزّ رأسي بالطريقة الصحيحة، تعيد أمّي النظر في مكوّنات طبختها من جديد، علماً أنَّها، مع مرور الوقت، توقّفت عن هذه الممارسة التي كانت تشعرني بأهميتي، بعد أن طوّرت حاسة عجيبة تجعلها تعرف نواقص طبختها بمجرّد شمّ رائحتها، وهي تُطهى على النار؛ كانت تأخذ نفساً عميقاً، ثمّ ترفع حاجباً، وتقول: «ينقصها رشّة فلفل»، أو: «لا بدّ من ملعقة دبس رمان، أو عصير ليمونة». ونادراً ما كان يخيب إحساس أمّي الفريد باحتياجات طعامها، الذي ينضج بجلالٍ فوق نار هادئة.
وعلى الرغم من أنّ غالبيّة المطابخ في أنحاء الكرة الأرضيّة قد استغنت عن استخدام السمن الحيوانيّ لمصلحة الزيوت النباتيّة، تجاوباً مع دراسات سيئة الطالع تتحدّث عن أمراض خطيرة تتسبّب بها الدهون المشبعة، فإنّ أمّي كانت تصرّ على أنّ استخدام الزيت عوضاً عن السمن إهانةٌ عظيمة للطعام، ولم تقبل أبداً أن تتوقف عن قلي البصل والخضر واللحم بالسمن الحيوانيّ، مؤكّدة أنّه من الخبث اتهام اللقمة الطيّبة بأمراض القلب والشرايين، وأنّ المسبّب الوحيد لأيّ خلل يطرأ على عمل الجسد هو الحزن والصحبة المثيرة للغمّ. ولو كان ثمّة عطر يمكن اختراعه ويحمل اسم «البيت»، لكان بلا شك، رائحة مطبخ بيتنا الذي تمتزج فيه رائحة المقليّات بالسمن الحيواني مع المخبوزات الطازجة، ورائحة خلطات التوابل السرّية، ورائحة أمّي ونداءاتها المبهجة: «تعالوا كلوا يا أولاد». البيت، بيتنا، بات ترنيمة حزن يتردّد صداها في قلبي طوال الأيّام التي أمضيتها بعيدة عنه، وعن مطبخه الكبير، مصنعِ السعادة والوفرة، الذي كنت أستعيد رائحته بأسى، حينما أتجوّل في البيت المستأجر الذي انتقلنا للعيش فيه في مدينة اللاذقيّة، والذي لا يشبه في حال من الأحوال «البيت»، فعلى الرغم من وفاة أمّي منذ أكثر من سنتين، فإنّ أشياءها التي لا تزال في مكانها، كانت تمنع عنّي الشعور بأنّني في العراء، كما في هذا البيت الغريب، الخالي من أيّة رائحة أو بهجة، فقد خلّفتُ الروائح والبهجات كلّها ورائي يوم حزمت حقائبنا، أسوةً ببقيّة أهالي قرى ريف اللاذقيّة الشمالي المحاذية لجبال الأكراد، حيث تمركز آلاف المسلّحين الذين أتوا من مختلف أصقاع الأرض للمشاركة في الحرب على بلدي سورية، وباتوا تهديداً لسكّان تلك القرى.
كان أبي جالساً كما هي عادته تحت شجرة التوت أمام البيت، مستنداً بذقنه إلى عصاه، فيما أحاول بيأس جمع أكبر قدر من الذكريات قبل مغادرتنا، خوفاً من أن نعود يوماً ونجد البيت منهوباً أو مدمّراً، كما حدث مع سكان البيوت المتروكة في أنحاء البلاد. وخلال مهمّتي المستحيلة، اكتشفت كم أنّ البشر هشّون وعاجزون عن المضي قدماً من دون آثار حياتهم الماضية.
وكنت أستعيد في خيالي مشاهد الجرّافات الإسرائيليّة، وهي تهدم البيوت في فلسطين أمام أعين أصحابها الهلعة، وأتساءل إن كان قد تسنّى لهم جمع ذكرياتهم منها، لكن، كيف يمكن جمع رائحة بيت قبل مغادرته؟
كنت أتأمّل صورة مؤطّرة بإطار ذهبي تتوسّط الحائط في غرفة الجلوس، ويظهر فيها أخي غدير بملابسه الخضراء المموّهة، محتضناً سلاحه، وعيناه تضيئان بنظرة فارس منقذ. أخي الصغير الذي كبر فجأة، ولم يعد ممكناً له أن يعيش مثلنا خارج صورة. وإلى جانب صورة أخي، صورة أخرى أصغر حجماً لأبي وأمّي، وهما جالسان على أريكة تتّسع لشخصين، ومتلاصقان بألفة، من دون ابتسامات واضحة على الشفاه، على الرغم من وجودها في أعينهما، ونقف حولهما نحن، أولادهما الأربعة: أنا وهند وغدير وسارية، نبتسم جميعاً، ونحاول استبقاء الأحفاد الأشقياء الثلاثة، فيما يحاولون هم الهرب لاستكمال ألعابهم الدنيويّة بالغة الأهميّة. زوجة أخي الأكبر لا تظهر في الصورة، لأنّها تولّت مهمّة التصوير.
لم يكن ثمّة مكان يتّسع في الحقائب محدودة العدد، إلا للضروري، لكنّني كنت أعلم أنّني لا أستطيع أن أغادر البيت، وأترك هاتين الصورتين وحيدتين؛ مسحت دموعي، ونزعتهما عن الحائط، وألقيت نظرة اعتذار على المسمار الذي سيبقى عارياً ومكشوفاً إلى أجل غير معلوم.
في المطبخ، وقفت أتأمّل الرفوف المرصوفة ببرطمانات المربّيات والمكدوس والزيتون والمخلّلات، وفكّرت في أنّ أمّي لو كانت موجودة لما قبلت أبداً أن نترك هذه الفراديس وراءنا. كانت ستقول لنا إنّ روح البيت مختزنة في هذه البرطمانات، وسيكون فألاً سيئاً أن نتخلّى عنها. وعلى الرغم من شعوري بأنّ حسن الطالع قد فارقنا منذ وقت طويل، ولن يتسبّب التخلّي عن هذه البرطمانات بضرر ملحوظ على طوالعنا، فقد قرّرت ألا أخالف حدس أمّي، فاخترت واحداً منها كي يرافقنا إلى البيت الجديد.
مددت يدي، وتناولت بثقة برطمان مربى الكرز من بين البرطمانات العديدة، مدفوعة بقناعتي بأنّ حلاوة الكرز يمكن أن تقدّم حلّاً سريعاً لأيّ مشكلات طارئة تحدث في الروح، لكنّني لم أكن أعرف حينها أنّ ثمّة حكايات كاملة يمكن أن تبدأ بسبب زيادة في ضربات القلب، يتسبّب بها الإفراط في تناوله.
وبعد أن جمعت برطمانات التوابل الصغيرة في علبة كرتونيّة كبيرة، خرجت من المطبخ بسرعة، متجاهلة بقسوة مفاجئة، نداء ملاعق أمّي الخشبيّة، وصحونها البيضاء المزركشة بنقوش أزهار، والطناجر النحاسيّة الكبيرة التي لم تتوقّع أن نهجرها يوماً.
ولاحقاً، وسط كلّ هذا العتاب الصامت، كان عليَّ أن أتسمّر أمام خزانتي، ثمّ أمام خزانة أبي، كي أختار الملابس التي عليَّ أن أضعها في الحقائب.
هل أحزم الملابس الصيفيّة فقط؟ أم عليَّ أن أكون أكثر تشاؤماً، وأفكّر في شتاء بارد قادم؟
ونظراً إلى كون أبي يحتفظ بملابس عمرها خمسون سنة، بما فيها ملابسه العسكريَّة التي خلعها منذ أكثر من عشرين عاماً، فإنّ معرفة الضروري من هذه الملابس السرمديّة، كي أضعه في الحقيبة محدودة الحجم، بدت مهمّة مستحيلة، لذا أغلقت باب الخزانة، وخرجت إلى حيث يجلس أبي منذ الصباح، جامداً كتمثال لا يُنتظَر منه تأدية أي مهام بشريّة، وحين صرت قريبة من أذنه كفاية، صحت بصوت عالٍ، كما بات حديثي التقليدي معه مذ صار سمعه ثقيلاً: «بابا، من فضلك ساعدني في اختيار الملابس التي تريد أن أحزمها لك».
وحين لم يجب، صحت بصوت أعلى: «أبي، أنا عاجزة عن معرفة ماذا أضع في حقيبتك!».
ضرب أبي عصاه في الأرض، وصاح من دون أن ينظر إليّ: «لن أغادر بيتي، سأبقى هنا أحرس قبرَي زوجتي وابني».

(*) الفصل الأوَّل من رواية بالعنوان نفسه للكاتبة السوريَّة ريمة راعي، حازت المرتبة الثانية في «جائزة سليماني العالميَّة للأدب المقاوم» في دورتها الأولى (2021) عن فئة الرواية، وصدرت حديثاً عن «دار أسفار للثقافة والإعلام» في بيروت.