ترجمة: عبد القادر وساطإدريس الشرايبي (1926-2007) من أهمِّ أسماءِ الجيل الأوَّلِ من الكتاب المغاربة بالفرنسية. تلقَّى تعليماً تقليديّاً في الكُتَّابِ القرآنيّ في الرباط، أتمَّ تعليماً فرنسياً حديثاً في الدار البيضاء. استقرَّ منذ عام 1945 في فرنسا. تعتبرُ روايته «الماضي البسيط» (1954) من النُّصوص التأسيسيَّة للأدب المغاربي الفرنكوفوني. النصّ التالي مقتطف من مجموعته القصصية «من كل الآفاق»


حين بلغَ المَضاءة*، كان يزحف على ركبتيه، وكانت ركبتاه تنزفان. وجهه أيضاً كان يسيل منه الدم. كان قد فقدَ فردةً من حذائه خلال الطريق (خلال الهرب، خلال الاندحار) وكان يلهث مثل كلب من كلاب الصيد. وتلك الأشياء التي كانت تُسمّى بنطلوناً ومعطفاً وقميصاً قد تحولت الآن إلى مِزَق. لكنه كان قد بلغ المَضاءة وهذا هو الأهمّ. وخُيِّلَ إليه أنه نَجَا.
شرعَ يستعطف بصوت مسموع:
- أيتها الساقان، يا ساقَي، لا تَضعفا، ولا تَخُونَاني!
وبعد أنْ أرهفَ أذنيه جيداً، بدأ يصرخ:
- من هناك؟ من هذا الذي يتكلم؟

جيلفان رابويّ ــ «المضاءة الزرقاء» (أكريليك على قماش، 2019)

أصاخ السمعَ من جديد. كانت حواسه الخمس قد اخْتُزلَتْ كلها في واحدة، هي حاسّة السمع. أخذَ يسأل بصوت فظ:
- هل يوجد أحد هنا؟ هيّا، اخرجْ من مَكْمَنك، كائناً مَنْ كنتَ. أنا لا أريد بك سوءاً. اسمع جيداً ما أقول: إن رجلاً بائساً مثلي لا يضمر السوء لأحد، فما عليك سوى الخروج، شخصاً مشرداً كنتَ أمْ كلباً أمْ دركياً. أنا أؤكد لك أني سمعتك، وأعرف أنك هناك، فما لك تتباطأ في الظهور؟
لكنّه لم يسمع جواباً، باستثناء أصوات الغابة. صرخ بكل قوته:
- لقد سمعتُك تتحدث إلى ساقيك وتتوسل إليهما ألّا تخوناك. أليس كذلك؟
كان الجواب الوحيد الذي سمعه هذه المرة عبارة عن ضحكة عالية. ولما أدركَ أنه هو الذي يضحك وليس سواه، أمسك فكه بكلتا يديه، وضغطه بقوة آلية. استمرّ في الضغط إلى أن تحولت الضحكة إلى صرخة ألم، وعندئذ، توقفَ ثم قال بنبرة حاولَ أن يجعلها هادئة:
- بوجمعة، إياك أن تُجنّ! بوجمعة، إياك أن تضحك أو تبتسم! ليس هناك ما يدعو إلى الضحك أو الابتسام! بوجمعة، متر وثمانون سنتمتراً، ستون كيلوغراماً، إذا نحن افترضنا أن الميزان دقيق، ستون كيلوغراماً من الجلد والعظم، دون لحم تقريباً، والكثير الكثير من الأعصاب، فوق ما أنتَ في حاجة إليه، وهذا يعني أن قدرتك على التحمل تضاهي قدرةَ الجمل، فانهض إذن، إني آمرك بالنهوض!
أجاب بوجمعة بصوت لا يقل هدوءاً:
- لستُ قادراً على النهوض، لأنني في غاية التعب، فأنا لم أتوقف عن المشي منذ ثلاثة أيام وثلاث ليال. ومَا الجَمَلُ وما القدرة على التحمل؟ أقول لك: إن الجمل نفسه سيحتاج إلى النوم بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال.
- ما لَنا وللنوم؟ قال بنبرة متذمرة. إذا أنتَ لم تنهض فسوف أؤدبك بكيفية لا عهد لك بها.
- ماذا ستجني من هذا؟ لا أنت ولا أنا نستطيع أن نغادر هذا المكان قبل ثمانية أيام.
- اسمع جيداً ما أقوله لك، هل تسمعني؟
- إنني أسمعك.
- إذا أنتَ رفضتَ الوقوف، إذا لم يقبل أي عضو من أعضائي أن يتعاونَ مع الأعضاء الأخرى، حتى يستوي هذا الهيكلُ واقفاً بأكمله، فَكُنْ على يقين أن شخصاً ما سيموت هذه الليلة.
- لقد فهمتُ هذا جيداً، بل فهمناه مثل رجل واحد، بساقيه وذراعيه، بجذعه وعظامه، بجلده وبكل أعضائه التي تنعتها أنت بأنها خائنة. بيد أني شرحت لك كل شيء، نعم، لقد شرحنا لك كل شيء.
صرخ قائلاً:
- كلا، لا يمكنني أن أقْبلَ هذا الكلام. إني آمركم بالوقوف وبمواصلة السير، بصرف النظر عن الاتجاه الذي سنسير فيه، المهم هو أن نبلغ المَضاءة الحقيقية، التي تركنا فيها الجراب.
بقي بوجمعة وقتاً طويلاً يخاطب نفسه بهذه الكيفية، شاتماً ثم مستنهضاً، ثم موجهاً لنفسه بعض اللكمات القوية. وبعد أن برّح به الألم، اكتشف أنه لم يَسْتَوِ بَعدُ على قدميه، ولو كان جملاً مريضاً لاستطاع ذلك.
اكتشفَ أنه لم يستو حتى على ركبتيه، كما كان يحسب، وإنما كان متمدداً على بطنه.
ورغم ذلك، كان يردد مع نفسه أنه قد نجا، فهو الآن في المَضاءة وذلك هو الأهم. كان يتذكر جيداً - ليس بذاكرته فحسب، بل بكامل جسده، بكامل قناعته وبكامل محنته - أنه ترك الجراب في المضاءة، وأنه انطلق مثل حصان، بحثاً عن بقرة أو شاة أو فرس أو أي حيوان يمكنه أن يقوم بحلبه وأن يحتفظ بالحليب في علبة المصبرات الفارغة، التي التقطها من إحدى الحُفَر، كان يتذكر أنه اجتاز عندئذ مضاءة أخرى غير هذه. كان يفكر ويستدل بالطريقة البطيئة لوالدته العجوز، حين تعد على أصابعها: لنر الآن، كان يقول لنفسه، لقد وصلتُ هنا، بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال من المشي، وهذا الضوء القليل يكفي بالكاد لأرى ما حولي في هذه المضاءة. تُرى، هل هو غسق الفجر أم غسق المغيب؟ على أية حال، فحيثما وليتُ وجهي لا أرى أثراً للجراب. لقد تركتُه إذن في المضاءة الأخرى، تلك التي عبرتها باحثاً عن الحليب.

المَضَاءة أو الفرجة: CLAIRIÈRE منطقة خالية من الأشجار وسط الغابة.