يستكمل عبد الحليم حمّود في روايته التاسعة «الرسولة» (دار زمكان) غوصه في أعماق الذات الإنسانيَّة، نحو أبعد النقاط المعتمة في النفس، من دون التورّط في الشرح البرّاني، أو الاتكاء على المصطلحات التي تجعل من فصول الرواية عنابر مصحات نفسيَّة. تنطلق الحكاية من «آسر» الزوج المسلوب القرار والإرادة، الغائب عن وعي ذاته المتشظية، وصولاً إلى «جبران الحرشي» ساعي البريد الذي حُرِم من الحبّ، فوقع أسير أحقاده التي أفرغها من خلال إخفاء الرسائل عن أصحابها وسرقة محتوياتها الماديَّة والعاطفيَّة، مروراً بِـ «فرح» الفنانة المسرحيَّة المتسلطة في علاقتها مع زوجها «الدكتور» الأكاديمي الخبير بعلم اللسان ولغة التواصل بين البشر، مع التوقف في محطات سريعة عند شخصيات مثل مالك، شقيق الدكتور الذي يعيش حياة مملة بحكم شخصيَّته المتوازنة، وهي في النصّ نقيصة، حسب تقييم الشقيق الأصغر.

أمَّا «الرسولة»، فهي نقطة ارتكاز الرواية وحبكتها، متسلّحة بخبراتها في قراءة الطالع، وعلم الفراسة، والأهم هو معرفتها بأسرار جميع سكان «تل العنبر» الذين يبوحون لها بخباياهم وخفاياهم، لتعيد توظيف تلك الأخبار في تعزيز هالتها المعرفيَّة، مولِّدَةً الدهشة من بصيرتها وحكمتها.
تلفتك لوحة الغلاف بمدى تآلفها في جميع ألوانها مع عنوان الرواية ومضمونها، فترى «الرسولة» امرأةً ناعمة الجيد، لها وجه دائري حنطي يزينه فمها الياقوتي، وفوق شفتيها يستقرّ أنفها متوسط الحجم، وفوقه عينان مغمضتان تستقيان الرؤيا من عالم النبوؤات. يغطي رأسها وجذعها وشاح أحمر لا يتبين منه شعرها بسواده الأبنوسي إلا في خصلات قليلة. وتتجلى أمام ناظريك «وسن» كما وصفها الكاتب بين سطور روايته بكل غجريتها وعفويتها، الأنثى التي تعتنق العزلة، وتزاول مهنة صناعة الأجبان والألبان وبيعها وتسويقها بسيارتها «البيك آب» إلى مطاعم «تل العنبر» والقرى المجاورة نهاراً، لتعود ليلاً إلى منزلها، فتشعل نيران موقدها وترمي البخور في فضاء الغرفة من أجل ممارسة السحر وقراءة الطالع وكشف المستور، تلك الصنعة التي ورثتها عن والدتها بعدما توارثتها العائلة جيلاً إثر جيل. تلفتك أيضاً في البدايات استثنائيَّة الإهداء من رمزيته السيميائيَّة، حيث مرَّ الكاتب بقلمه على قبور العظماء وأجمل ما سطرت أقلامهم، فألقى التحية بحبر مفتون بعبق البخور المشتعل فوق أضرحتهم، من دون أن ينسى الكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي التي أحيا سيرتها ورمزيَّة أدبها «المرجوم»، بين سطوره في مدوّنات تقريريَّة كتبها عن معاناتها والإساءة التي تعرَّضت لها، ما أدَّى بها إلى اعتزال الكتابة.
بانتقالك بين فصول الرواية، تقف في محطات معينة لثوانٍ قليلة، لتعيد القراءة مرَّات ومرَّات متأملاً الميثولوجيا النفسيَّة والاجتماعيَّة التي تتضمنها الأحداث، وقد تعترضك بعض التساؤلات: هل الرواية مجرد أحلام وسنيَّة، أم أنَّها سبك للواقع ببعض الغرائبيَّة، أم مراجعات نفسيَّة تغوص في مستنقعات النفس البشريَّة وتناقضاتها؟.
في النصف الأوَّل نبحر في متاهات «آسر»، فنجده هارباً من نفسه ليعيش طوال الأحداث باحثاً عن أناه التائهة، تارة فاراً من مصح عقلي، طوراً لاجئاً إلى منزل شقيق صهره المهاجر إلى النروج، ليختبئ بين جدران منزله من تلك العصابة التي قتلت زوجته أمام عينيه بطلقتين في دماغها، وهددته بالقتل إن لم يعترف بمكان محفظة النقود، ليستيقظ في منزل ساعي البريد وبمحاذاته كيس رسائل ودرَّاجة سوداء، يركب مقعد الدراجة كطفل وجد لعبة مسلّية، فينزلق في غضون أيام معدودة في حفرة الحبّ والتيه، بين حقول «تل العنبر».
ولا بدّ من الإشارة إلى أنَّه في رواياته السابقة «ذاكرة هافانا»، و«يوري إله السمكة السوداء»، و«وهم الأنا» و«أسمر»، اختار الكاتب أبطاله من رحم المدينة: من أزقّة الشياح، وزواريب بيروت، ومقاهي الحمرا وصفاً وسرداً، بينما تأتي «الرسولة» من دروب القرية، لتفاجئنا بأنَّه اختار موقعاً استراتيجياً جديداً لا يشبه المواقع السَّابقة البتة، ويتلاءم مع التيه الذي نحياه خلال حياتنا.
أحيا سيرة ليلى بعلبكي ورمزيَّة أدبها «المرجوم»


وقد اختار حمود وهو الفنان التشكيلي «تل العنبر» موقعاً جغرافياً مميزاً في «الرسولة»، فرمى بأبطاله بين حقولها ووديانها، وسرد حكايات القرى ودواوينها بين سطور روايته، ولوَّن بريشته كلمات الرواية بعبق الرياحين، فتجدك تحكّ جلدك إثر لسعة عقرب نهشت فخذ آسر، أو تتنشَّق البنفسج والزهور في حقولها، أو تتعفَّر بالتراب الأبيض الذي ميَّز هذه القرية عن باقي القرى بترابها الأحمر، متوقفاً عند مدى قدرة الكاتب على دمج التسجيلي بالمتخيَّل.
هل استطاع عبد الحليم حمود كسر المحظور عندما أطلق لقب «الرسولة» على البطلة الأنثى في روايته؟ خلال لجوئه إلى «تل العنبر»، يكتشف الدكتور آسر أسراراً، ويروي حكايات على ألسنة الحلاق، وجارة ساعي البريد، ينبش الذكريات، وينقب في رؤوسنا عن سبب اختفاء ابنة ساعي البريد، فأين هي تلك الفتاة من كل الرواية؟
يرمي الرسائل من كيس الخيش، يصنع من النشاء والخل الأبيض مادةً لاصقة يرمم بها ثقوب الماضي، يرتق بدبقها المراوغ حنيناً مشرداً في دروب الضياع، ليأتي صوت «وسن» منشرح الأسارير، تخاطب حبيبها وزوجها، ورجلها المجنون: «ليس على المجنون حرج، وأنت مجنون رسمي. سأجاريك في لعبتك يا آسر، سوف أطبخ النشاء ولنرَ النتيجة» (ص153).
تربكك «الرسولة» في الربع الأخير، تجعلك مشدوهاً حين يأتي صوتها من خلف السطور واثقاً، ذا نبرة تتكئ على الزهو، لتكتشف أنَّها مجرد شتات. ومع كل صفحة من صفحات الرواية، تؤرقك الأسئلة التي لا تتوقف عن التوالد في رأسك: أين أنا؟ من هي وسن؟ ما هي النهاية التي سترمينا في دهاليز أمراضنا المختبئة تحت مسامات جلودنا؟ هل ستنجح «الرسولة» في الاختباء خلف سرب البجع الأبيض من خلال أبنوسها الأسود الليلي؟