ينشغل الروائي النمسوي بيتر هاندكه (1942)، الحائز «نوبل للآداب» 2019 في مجمل أعماله بتفحّص خصوصيّة التجربـة الأدبيّة في علاقتها بالذاكرة. ينشغلُ مؤلّف «عن التعب» و«خوف حارس المرمى من ضربة الجزاء»؛ بتشريح الفقد الذي سبّبه موت والدته.في روايته «حزن غير محتمل» (دار العربي- القاهرة) التي عرّبتها هبة شريف، يتحوّل الفزع إلى صورة بصرية: «لم أكن أكتب عن التجربة نفسها كما عشتها، وإنّما كانت التجربة تتغير من خلال كتابتي عنها»، متمثّلاً شاتوبريان الذي يعتقد أننا «إذا لم نسجل في المساء أحداث الصباح، لن يكون لنا وقت لتدارك ما فاتنا». سيقوم ــ بعد ستة أسابيع ــ باستعادة صورة الأم من خلال تصوير المخاوف التي أثارها انتحارها بجرعةٍ من الحبوب المنّومة وبتحويل عالم شبابها إلى صورٍ مرئيّة، مُمتَحِناً المسافة بين اللغة وما تعكسه، يدوّن الشذرات والرسائل القصيرة التي كانت تكتبها لأخيها في الجبهة، وتعليقاتها على حياتها، لاكتشاف العالم الذي شكلَّ وعي الأم، فيما يستغرق في الثُّلث الأوّل من الرواية، بتفسير المخاوف التي سبّبها غيابها، لِشرح أولى مراحل هذا التبلُّد العاطفيّ؛ الذي ظهر عبر ردود فعل الجسد إزاء المحنة (نوبات البرد غير المفهومة التي يشعر بها، نسيانُ الأشياء في يده، تساقطُ الأغراض أحياناً أخرى، الملل تجنب التحدث عنها والرغبة بإسكات الآخرين، فراغ الوعي وألمه).


يتحوّل هذا التبلُّد إلى رغبة في الكتابة ووعي بالعجز في آن «والاحتياج لأن أعبِّر عن هذا العجز». لذلك يبحث هاندكه، عن المفردة والعبارة المثلى للإمساك بهذه الحياة المفقودة؛ وأثناء ذلك يعبِّر عن مخاوفه من أن يمسَّ بواقعيّة غيابها ويجعله مجرّد خيال: «كان يوماً مشمساً، شربنا في ذلك اليوم حساء الكبد، في ذلك اليوم بدأ كل شيء. أصبح كل شيء مجرّد قصـة خيالية بحتة». هكذا تتكشف عند صاحب «رسالة قصيرة للوداع» كل الانفعالات البشرية، وتتبلوَر في سلوك أو حركة جسدية أو رد فعل بسيط كتحريك يد أو إيماءة؛ تجعل القارئ يبحث في ما تتركه هذه الصور من معنى. يذكِّرنا هذا بأسلوب الروائية الفرنسية نتالي ساروت التي تقدم انفعالات الشخصيّات باعتبارها دالّة على الداخل، بينما يدفع هاندكه بالأسلوب خطوةً إلى الأمام ليصبح الانفعال الفرديّ مؤشراً إلى العالم الموضوعيّ خارج الذات وداخلها. يصور الأم، تلك الريفية الطامحة والشغوفة بالحياة، التي تنتمي إلى أسرة فقيرة وعصاميّة عرفت معنى التملك بعد إلغاء العبودية. لكن الرغبة بالاستقلال والحرية تعني المزيد من التملك، وهذا يعني المزيد من الادخار. هذا الشعور الذي انتقل من الجدّ لأولاده، يعني ألا تكون لهم رغبات.
في هذه الظروف عاشت والدته، وشهدت في شبابها الحرب العالمية الثانية، وغزو ألمانيا للنمسا، وفقدان المدخرات: «أن تولد امرأة في هذه الظروف، يعني أنه محكوم عليها بالموت منذ البداية». وسط كل ذلك، تبرز صورة الأم الشابة بفساتين براقة وقصيرة، احتفالات، ورقص، بهجة الشباب، الزوج، والمسؤوليات، الأولاد ورعب صفارات الإنذار، الخجل من الضحك الذي كانت تُلام عليه وهي طفلة: «هكذا حياة الإنسان منّا، يشعر أنّه حر، إلا أنه لم يكن يستطيع الخروج بهذا الشعور للعالم». وهناك عنف الزوج، واعتقادها بأنّه ليس من حقّها الاستمتاع بشيء: «كانت تأكل بقايا الحلوى من يد الأطفال». ارتعاشة القرف في ذقنها وخدّيها حين تحكي عن بؤسها متجسّداً في طاسة «للتبول والأكل في آن». لعله سرّ الانكسار الذي لازمها، كأنه يبحث خلف يدها التي تحتضن حبوب المنوّم (عن الشقاء والحرمان والرغبات المهدورة) في وسطٍ تُوقِعُ الجماعة فيه بالفرد أشدّ الضرر ثم يتولى الأخير إيقاع الأذى على نفسه.
في المراحل الأخيرة في حياة الأم، يتطور المرض العصبي ويتحول إلى سلوك قهري «تمشي حتى الغياب، ثم تجلس لوقت طويل صامتة فوق مقعد».
إنّ العقبة التي واجهت صاحب «عن التعب» على مدى الرواية تتمثل في «أن صياغة الحقائق يجعلنا نتماثل معها أكثر من التقرير عنها»، ما جعل أسلوبه يميل إلى الفتور الذي لاقى رفضاً من البعض بحيث وصفت لغته بالنرجسية، وهذا مرده لشعوره بضرورة محاصرة اللغة لجعل الموت أقلّ وطأة. سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ عن ضرورة لغة مثالية نصيغ بها الواقع، ألا تكفي اللغة العادية؟
يتحوّل الفزع هنا إلى صورة بصرية


والحال، فإن الكتابة ليست تذكّر ما حدث ونقله، «إنها حركات دائمة من الذكريات في شكل جمل توحي باتخاذ مسافة»، للتحرر من الألم عبر سرده وتحويله إلى واقع لغويّ يخلقه الإنسان ويلوذُ به، بحيث يَتخلّقُ في خيالِ كلِ إنسان بطريقةٍ خاصة، فتستدعي كل ذات لغتها التي تشفيها. كتب أبقراط «يُداوى العليلُ بحشائشِ أرضه». وبالرغم من ذلك، بقي حتى السطور الأخيرة مرتاباً في جدوى عمله، وقلقاً من أن يتحوّل كل ذلك إلى صياغة مجردة «فتنسى الكتابة، الشخص الذي انطلقت منه». لكن ذلك لا يمنعه من تجسيد مشاعر الألم في صورة بصرية كالفقر مختَزلاً إلى صحنٍ قذر أو مكواةٍ صدِئة. إنه ينصهر في الأشياء فيصبح مجرّد النظر إليها معذِّباً للإدراك و مفتِّتاً له. في أحد المقاطع، يصوّر سفر شقيق الأم للدراسة في ثانوية داخلية. لم يتأقلم مع المكان، «عاد في الليل إلى بيته مشياً على قدميه أربعين كيلومتراً، ومن دون أن ينطق بكلمة، بدأ في الكنسِ أمام المنزل». إنها صورة بليغة للخزي والانكسار الذي تعبّر عنه الذات بشتى الطرق. بالنسبة إلى أسلوب هاندكه، فإن جعل الفزع مرئيّاً ينقله من ضفة الغرابة إلى الألفة مع الذات بالرغم من كونه تحرّراً مؤقتاً لكنه ضروري. وفي هذه الكتابة، ندرك من خلال صورة، ما يحتجب وراءها، لنفهم ونشعر بمعنى الخوف المميت الذي ينتاب أحدهم «عند الاستيقاظ ليلاً والنور مضاءً في الردهة ليكتشف غياب الأم».