ترجمة: هدى حمودة (الجزائر)
-1 العزلة
قَبلَ بَدء الزمن وبدايَة البدَاية، إنْ أمكننا القَول، كان الكائن وَحيداً في الفراغ. لم يكن هناك شيء. ومع أن شيئاً ما كان مَوجوداً، لا يَستطيع أحد قَولهُ لأنّ القَوانين التي تَحكمنا لم تُوجد بَعدُ، لأنه لم يكن هناك مكان ولا زمان، ولم يَكن هناك سَبَب ولا نَتيجَة، لا حَتميَة، لا صُدفَة. في الفراغ كان هناك شيء من العَتمة واحتمَال مُضيء، يَمتزج بِه وبأي شَيء، ولأننا لا نَملكُ بَديلاً، نَمنحُ اسمَ الكَائن، كان بمُنتهَى القُدرة ولم يَكن يُؤدي شَيئاً. كان بمُنتهَى القُدرة لكنه لم يَكن يَفعل شيئاً. وكلّ ما سَيَحدث إلى آخر الزمَن كان بالأَصل فيه: الطعام الأول، الطحَالب الخضراء والزرقاء، الديبلودوكس، إنسان النياندرتال، النار، الزراعة، المدن والكتابة، تَوسعات الإسكندر وأولى خطوات أرمسترونغ وألدرين على القمر. لَكنْ كُل شَيء كان ما زال مَخفياً وعلى شكل احتمَال، لم يَكن الكُل سوى احتمَال. كان الإله كُلي القُدرة وكل شيء كان مُحتمَلاً. لم تَكن قوانين الكَون قدْ سُنَّت بَعدُ، والزَّمن لم يكن هنا ليُوحِّد ما سينقَسِم. لا شيء كان يَجري بَعد في الوُجود ولا في التعاقب.
كل شيء كان يَجتمعُ في الكائن الذي كان وحيداً في العدم، ويَمتزجُ بذَاته.



-2 الحُب
مَهمَا يَكن، فإن عُبور المُحتمل إلى الحَقيقي يَتطلب شيئاً ما يُشبه اللغز. يمكننا تَخيّله لغزَ الحب. كل ولادة تَحدث بدافع نسمّيه الحب. كذلك يَخرج الكُلّ من العَدم عَبر مَنفذ الحب وبفَائض الحبّ. وحيدٌ هو الكائن وضَجرٌ، لا يستطيع أن يُحب ذَاته ويَرغَب في أن يُحبَّ الآخرين ويُحبوه. بدَافِع الحب، يَخرج الكل من العَدَم والزَّمن من الأبدية. إنْ كان الكَائن لا يُحب الكل، فَلن يتمَكن الكلّ من الانفصَال عن العَدم. هو شيء من الحُب ما يُوحِّد العالم ويَقتلِعُه من العدم. الواحد، الصالح، الشمس، الإله، الكائن الأعلى، الضرورة، القانون، هي أسماء متعاقبة مَنحَها الشُّعراء أو الفلاسفة لنبع وحَارِس وِحدَة العَالم الذي بمُعجزة أبَدية لن يَتَشَظَّى. هناك تَعلُّق مُتبادل بين الجُزء والكُلِّ في كل لَحظة يمنع الكون من الانفجَار. الحُب إسمَنتُ العالم، هو يُدير الشَّمس وباقي النُّجوم. يَصدُّ موتَ العالم. يسنُد الكُلَّ ولا يَتوقَّف أبداً عن خَلقه.

3- الكلُّ والفراغ
قبل الكلِّ، لم يَكن هناك شيء. قد يصعب تَخيله، بخرائطه المُتعاقبة وطَياته اللانهائية، وحُقول خَشخاشه؛ فرَسم الفَراغ مهمَّة مستَحيلة. عن الغياب الخَالص، لا نستطيع الكلام، أي راحة! أي نعيم! في كل واحد مِنا وفي صمت الأعمَاق، شيء من الحَنين إلى الفراغ ما زال يَطفو. قبل أن يبدأ البَدءُ بالبدء، كان الفراغ كل شيء. لم يكن هناك مكان ولا حتى فَراغ: كل فراغ يَستحضِر امتِلاءً. لم يكن هناك ضوء ولا شيء مُطلقاً وأقل من ذلك، لم يَكن هناك زَمن. ما منع – لكن كيف نفعل خلافَ ذلك؟- استخدام كلمة قَبْلَ التي لا مَعنى لها إلا في الزمن. لم تَكن هناك كائنات، بل كائنٌ لأنه ما كان مُنذ الأزَل وإلى الأبَد. كائنٌ مُطلق وأبَدي يَختلط بالفراغ ومِنْ ثم بالكُلِّ.
الكَائنات داخل الزَّمَن لا يَحِق لها أن تتكَلم عن هذا الكائن الخارج عن الزَّمن، عن المكان والزَّمن. لنمضي سريعاً ولنبسّط الأمور يُمكننا أن نُسميه إلهاً. في أبَدية وفي مُطلق حبس الكائناتِ دَاخل الزَّمن إلى الأبَد، الإلهُ هو الاسم الأكثرُ مُلاءمة للفراغ وللكُلِّ. يَتجاوزنا الفَراغ والكل أبعَد من أنْ نستطيع الكلام عَنهم. لا نَتحدثُ عن الإله ونَحن مُندفعون في الزَّمن. يمكننا أن نُكلم الإله، لا أن نَتكلم عنه. وأن نحبه في صَمت ونتَضرَّع له بلا جَدوَى.
لا يُمكننا التحدث عَنه لأنَّه غير مَوجود ويَختلط بالكُلِّ الذي يَختلط بالفَراغِ. في المَكان والزَّمن، ليس هناك غير الكائنات ولا وُجود للإله لأنَّه أبَدي.
وَحدهَا الأبَديِّة، في الفراغ الذي كان كُلَّ شيء، كان بوسعها البَقاء إن لم يَكن دائماً، فإلى الأبَد. ليس هناك لُغزٌ غيرَ لُغز الجُذور. لا أحد – ولا حتى أنا الذي أملِك الجَسارة لأدخِلكم تَاريخ الكُلِّ الطَّويل – يستطيع أن يَعرف لم انبثَق الزَّمن عن الأبدِيَّة ولا لم يَتحوَّل الفراغ إلى الكُلِّ.
في لَحظاتِ مَجدنا أو يَأسنا، لا نُفكر بغير أن الكُلَّ ما هُو إلَّا فَراغ. هو ما يَتبَقَّى في كُلِّنَا مِن آثَار هذا الفَراغ الذي يَخرج منه. «خلق الإله العَالم من الفراغ، كتَب بول فاليري، لكن الفراغ يَجرحُ». أكثر امتلاءً بالفرحِ والشَّقاء، بالمُعاناة، بالأمَل. كُلُّنَا ومَع أنهُ ما نَحيا فيه كُلَّ أيام حَياتنا، فقد خرج من الفراغ. لمّا خَلفَ الارتِباك الأوَّل الاختِلاف بينَ الفَراغ والكُلِّ.
إلام ننتَمي كُلُّنا، أنتَ، أنا، الشمس، والقمر، والنجوم في السَّماء والأرضُ وسُكانها، أفكارنا وشغَفنا؟ ننتمي إلى الكُلِّ. وفي كُلِّنَا على الأَقل، الفَراغ لا شيء، لأنَّه غيرُ موجود: الكائن موجود؛ الفراغ لا. هو هذا العُبور من الكائن إلى الكائنات ومن الفَراغ إلى الكُلِّ ما يَطوِي اللُّغز الفَريد. لِمَ هُناك شيء ما مكان الفراغ؟ لا يمكن أن نَشرحه. نحن –أنت و أنا – من ننتَمي إلى المَكان وإلى الزَّمن، وليس لنا الحقُّ في الإفلاَت منهمَا. ولا يمكننا أن نَعرف شيئاً، عن الفراغ الأبدي والكائن المُطلق.

-4 السُّر
مَحبوسُون في الزّمن، في التّاريخ، في حَياتِنا، في العالم، لنَا الحقّ، مع الشَّك وفي الغُموض، بتَخيل ما كان من قَبلُ وما سيكون من بعدُ. ولا يُمكننا التَّحدث عنه بوضُوح ولا بإثبَات. بالنسبة إلينا نحن التَّائهُون، يبدُو الكَون، الزَّمن، التاريخ، ومعنى حياتنا كَسِرّ.
كل سِر يحتَمل حقيقة مُخبأة وخَفيَّة. وَرِيثة لقِوى سِحرية كثيرة، ومِنْ ثمّ لِحشد آلهَة وإلَه مِن سُلالة مُعقَّدة.
لزمَن طويل كان الإلهُ مَالك هذه الحقيقة الخَفية وكَفيلهَا. لكن الكثيرَ يتسَاءل، ومنذُ قَرن أو اثنين – وحتى قبلُ، على الأقل بعدد كَبير- إن كان مَوجوداً. يؤكد الكثير بلى.
مَساسٌ بالإلَه أن تَشهدَ على سِرّ في الكَون.

* جان دورميسون (1925- 2017) كاتب، إعلامي وأكاديمي فرنسي ولد في باريس لعائلة معروفة شغلت مناصب ديبلوماسية وإدارية مرموقة. درس التاريخ والفلسفة واللغة اليونانية القديمة نشرت أعماله ضمن سلسلة «لابلياد» La Pléiade الخالدة التي تصدرها «دار غاليمار». تتميز كتاباته ببعدها الفلسفي، فهو يقترب من سؤال الوجود الجوهري ليأخذه في كل الاتجاهات محاولاً طرح الأسئلة أكثر من البحث عن أجوبة، مع اهتمام عميق باللغة التي تحمل بحد ذاتها فلسفتها الخاصة كما اعتبر. لا يُقرأ دورميسون دُفعةً واحدةً لكثافة المعنى وعمق اللغة. شَكل علامة مميزة في الأدب الفرنسي الحديث، وبإصداراته الغزيرة التي قاربت الأربعين من بينها: «الحب متعة» (1956)، «أقول رغم كل شيء أن هذه الحياة جميلة» (2016)، «اليهودي التائه» (1991) ــ النصوص المتُرجمة مستلّة من كتابيه «تقريباً كل شيء عن لا شيء» (1996) و«دليل الضالين» (2016).