لندن | في قلب «جامعة أيست أنجليا» البريطانية (شمال شرقي لندن) المشهورة بالدراسات الإبداعية والنقديّة، يقع مقرّ ناشر من نوع مختلف. إنّه «بويلر هاوس للكتب» الذي يقوده عدد من النقاد الأدبيين، ويتولى متمهّلاً نشر أعمال من النَخب الأول، روايةً وشعراً ونقداً أدبيّاً وبحثاً، وتقديمها للجمهور العام في إخراج جذاب وحداثيّ يثير الشهيّة للقراءة، ويجدد الحنين للكتاب المطبوع.
غلاف الكتاب

الثيمة التي تجمع الأعمال التي صدرت عن «بويلر هاوس»، على تنوع أجناسها الأدبيّة، أنّها جميعها تكسر القوالب الأدبيّة المؤسسة، وتحلّق في فضاءات الجدل بين الناقد والمبدع، وتصل بالأفكار التي تتحدى المألوف والتقليدي والمكرّس إلى القارئ العاديّ غير المتخصص، بأسعار تبدو كأنها تعود إلى قرن ماض. كأننا نستعيد الأيّام الذهبيّة لسلاسل كتب مصر المرحلة الناصرية التي كانت تصل إلى أرجاء العالم العربي بأسعار زهيدة. الكتاب هنا في جوهره، فكرة مغلّفة، والنشر مهمته إيصال الأفكار إلى الناس كي يبدأ التغيير.
«كتب مستعادة» أكثر مشاريع «بويلر هاوس» شعبيّةً، تتضمن إعادة نشر أعمال روائيّة منسيّة من مراحل سابقة، تحمل في نصوصها تجارب عابرة للحظة وذات صلة بأشواق الإنسان المعاصر، لكنّها لأسباب متفاوتة لم تعد متوافرة للقراء أو لم تنشر سابقاً بالإنكليزية، فتقدّمها كأنّها طازجة نديّة لجيل جديد. و«مفتشو الأفكار» The Sanity Inspectors رواية الكاتب الألمانيّ فريدريش ديش هي أحدث ما تمت استعادته من غياهب النسيان.
الرواية الصادرة عام 1955، روت سيرة الدكتور روبرت فوسمينغ طبيب النفس الألمانيّ الذي يعيش تناقض الإخلاص لقسمه المهنيّ، لحظة بدأ النظام النازي حملته لتخليص الشعب الآريّ من «غير المرغوب فيهم»: المجانين والضعفاء، والمتخلفون عقلياً، والشيوعيون، واليهود. أُجبر وقت الحرب على الالتحاق بسلاح الجو الألمانيّ كضابط طبيب، وهناك يقاوم النّظام من داخله في حملة رجل واحد عبر منح الطيارين المترددين في أداء الخدمة العسكريّة أعذاراً زائفة للتسريح من السلاح. ويتبادل فوسمينغ أثناء ذلك مراسلات مع قس لوثري حول أزمة ضميره، والعواقب المحتملة لخياراته الأخلاقيّة، وشكوكه في معنى العقل الفردي في مواجهة الجنون الجماعيّ، ليصل في النهاية إلى موقع يتحتّم فيه الاختيار بين العيش الذليل ومعتقداته، ما يؤدي إلى اعتقاله، والحكم عليه بالإعدام.
الرواية وكاتبها طبيب بالفعل، اسمه الحقيقي فريدريش فيرين (ولد في عام 1907 ويبلغ الآن 116 عاماً)، خدم خلال الحرب العالميّة الثانية في سلاح الجو الألمانيّ كضابط طبيّ، تطرح من خلال شخوصها وأحداثها مجموعة من الجدليّات، التي تظل راهنة حول معنى التمسك بالحقيقة في عالم متخم بالأكاذيب حين يصعب تحديد الصواب من الخطأ، والخير من الشر، والواجب من الجريمة، وماهية التعقل عندما يصاب القوم من حولك بالجنون، وكيف يمكن لإنسان صادق مع نفسه أن يستمر بالحياة في منظومة يتعرّض فيها الجميع للقهر والإفساد الممنهج.
ترجمة «مفتشو الأفكار» من الألمانية إلى الإنكليزية ضمن «كتب مستعادة» أولى من نوعها، تولّاها روبرت كيي، فيما قدّم لها سنكلير مكاي الكاتب البريطاني المهتم بشؤون ألمانيا، وكتب لها خاتمة كريس مالوني وهو طبيب وكاتب متخصص في دراسة الصحة العقليّة في المجتمعات المعاصرة.