هل الإبداع وليد الجنون أم الجنون هو نتيجة حتميّة للإبداع؟ لطالما بدا للجميع أنّ أصحاب العقول المبدعة، سواء كانوا فنانين أو كُتّاباً أو علماء أو مثقفين، يرقصون في كثير من الأحيان على حافّة الجنون، والأمثلة عديدة من الرسام فان غوخ، وعالم الرياضيات العبقري جون ناش، إلى الشاعر شارل بودلير والكاتبة فرجينيا وولف الذين عانوا جميعاً من اضطرابات عقلية. يغوص كتاب «شطحات العقل بين الإبداع والجنون» (2022) للباحث والطبيب النفسي الفرنسي رافاييل غايار (انتقل أخيراً إلى العربية عن «دار الساقي» ــ ترجمة بديعة بوليلة)، في هذه الأرض الوعرة، مستكشفاً جذور هذه القرابة الغامضة ومحاولاً إيجاد صِلة علمية بين الجنون والعبقرية.

ينطلق الكاتب من ملاحظة هامّة هي الانتشار الكبير للاضطرابات في المجتمع الإنساني، كالشيزوفرينيا والتوحُّد واضطراب ثنائي القطب والاكتئاب الحاد. لتفسير هذه الظاهرة، يطرح الباحث فرضية أنّ بعض هذه الاضطرابات قد عُزّزت عبر الأجيال المتلاحقة عن طريق الاصطفاء الطبيعي، الذي يُعتبر مفهوماً مركزياً في نظرية التطوّر لداروين. تستند الداروينية إلى فكرة أن السّمات التي تشجِّع البقاء والتكاثر هي أكثر احتمالاً أن تنتقل وراثياً إلى الجيل القادم. وهذا يؤدّي إلى تحسين تدريجي للكائنات الحيّة مع الوقت. يعتقد صاحب كتاب «أصل الأنواع» أنّ الأفراد الذين تحلّوا بصفات مفيدة وقويّة كانوا الأقدر على النجاة والتكاثر في البيئة التي شهدت الاصطفاء الطبيعي. أمر أدّى إلى اختفاء الإنسان البدائي (النياندرتال) لصالح الإنسان العاقل (الهوموسايبنس).
قد تبدو فكرة ارتباط الاضطرابات العقلية بفائدة تطوّرية للبعض مجنونة وغير قابلة للتصديق. مع ذلك، يعتقد الباحثون أنّ بعض السِّمات المرتبطة بهذه الاضطرابات قد ساعدت الإنسان على التكيّف مع بيئته. على سبيل المثال، يمكن أن يكون القلق الزائد مُعيقاً للإنسان، إلا أن القليل منه يملك فائدة في المواقف الخطرة، إذ إنّ القلق يثير ردة فعل «القتال أو الفرار»، ما يساعد الإنسان على البقاء. وهذا لا يعني على الإطلاق أنّ الاضطرابات العقلية بحدّ ذاتها هي ميزة، بل يتعلق الأمر بالآليات البيولوجية أو النفسية المرتبطة بها، التي قد تكون مفيدة في بعض الحالات. لكن يجب الإشارة، إلى أن هذه النظرية تثير حالياً الجدل في المجتمع العلمي وما زالت في طور التكهُّنات، فالعلاقة بين الاضطرابات العقلية والتطوّر ليست مفهومة بشكل كامل حتى الآن.
يشرح الكاتب بإسهاب كيف أجرى العلماء دراسات في إيسلندا والسويد، وتوصّلوا إلى وجود جذور مشتركة بين الإبداع والجنون، ما فتح الباب أمام فهم أعمق لما يربط هذين العالمين المتباينين ظاهرياً! والمفاجأة كانت أنّ المُصابين بالجنون ليسوا هم بالضرورة المبدعين بل أقاربهم! لقد بيّنت الإحصائيات أنّ أقارب المرضى الذين يعانون من اضطراب عقلي هم أكثر ميلاً إلى ممارسة المهن الإبداعية، وأنّ هناك احتمالاً كبيراً للعثور على أشخاص مجانين في الأسرة المبدعة والعكس صحيح. في بحث آخر، اطّلع فريقٌ من العلماء من إحدى شركات الأدوية الحيوية في ايسلندا، على بياناتٍ مأخوذة من 86 ألف شخص. وجد أنّ الأفراد الذين يعملون في مجال الفن، كانوا مرجحين لحمل المتغيرات الجينيّة المرتبطة باضطراب ثنائي القطب أو الفصام بنسبة 17 في المئة أكثر من أفراد آخرين، ما يؤكد الرابط الجيني بين الجنون والإبداع..
يؤكِّد الباحث أنّ الدماغ البشري اكتسب أثناء عملية التطوُّر المزيد من التعقيد المذهل والكفاءة والمرونة بفضل مليارات الخلايا العصبية التي تتفاعل مع العديد من الخلايا الأخرى عبر اتصالاتها الكيميائية والكهربائية. أمر منحه القدرة على الإبداع، لكن جعله أكثر عُرضة لمشكلات الصحّة العقلية. يُدافع غايار عن فكرة أن هذا التعقيد في أدمغتنا هو نتيجة فقدان مُعيّن للموثوقيّة. وقد تسبّبت خسارة «الموثوقيّة» في ظهور نقاط ضعف لم تكن موجودة في العقول الأكثر بدائية والأقل تعقيداً. لقد مهّد الوصول إلى عملية الوعي وإدراك الواقع لدى «الهوموسايبنس» الطريق أمام قدرات فكرية مثيرة للإعجاب، لكن الدماغ أصبح في الوقت نفسه أكثر هشاشةً وأرضاً خصبة للاضطرابات العقلية.
الأمثلة عديدة من غوخ إلى الشاعر شارل بودلير والكاتبة فرجينيا وولف


يرى المؤلِّف أن ظهور اللغة كان حاسماً في عملية التطوُّر، لأنّها مكّنت الإنسان من بناء مجتمعات تعتمد على معارف مشتركة. تلعب اللغة دوراً حيوياً في العملية الإبداعية لأنها تمنح الإنسان القدرة على ابتكار أفكار ومفاهيم غير موجودة فعلياً. بمعنى آخر، من خلال الكلام أو الكتابة، قد نُولد عقلياً شيئاً ليس له أي وجود مادي. هذه الوظيفة للُّغة تُعتبر أساسية بالنسبة إلى الكتّاب والفنّانين والمبدعين بشكل عام، لأنّها تتيح لهم خلق عوالم وشخصيات خيالية.
كذلك يتطرّق الباحث إلى الفنّ باعتباره مجالاً يمكن أن تأخذ فيه العواطف بُعداً كبيراً. يشير إلى أن العواطف المتنافرة والقدرة على استحضار تجارب مُكثّفة، وخلق أحاسيس الدهشة والغرابة، عناصر مشتركة بين الاضطرابات النفسية والفنون. مع ذلك، يُحذّر الكاتب من التمييز ضد الفنّانين، داعياً إلى عدم تصنيف الأذهان المبدعة على أنّها مُصابة حتماً بالاضطرابات العقلية، فالإبداع لا يتطلّب بالضرورة جنوناً ومعاناة نفسية. يُشجّع الكاتب أيضاً المجتمع على التعرُّف إلى الاضطرابات النفسية وقبولها كجزء أساسي من التجربة الإنسانية من دون تمجيدها، لأنّها تُسبّب فعلاً معاناة مريرة للمُصاب. كذلك يحث على دمج الأفراد الذين يعانون من هذه الاضطرابات في المجتمع والاحتفال بتنوّع التعبير الإبداعي. يُنهي الكاتب أطروحته بالتأمل في مهنة الطبيب النفسي التي يتمثل دورها الأساسي في تخفيف معاناة المريض، مشجّعاً الأطباء النفسيين على التبحُّر في مجالات المعرفة الأخرى مثل الفلسفة والفنّ لمساعدة مرضاهم.
كتاب «شطحات العقل بين الإبداع والجنون» مُشوِّق جداً، زاد من غناه استناد الكاتب إلى العديد من المراجع العلميّة والأدبيّة والفنّية التي ساعدته في الدفاع عن فرضياته. وبالرغم من أنّ رافاييل غايار يُناقش مواضيع علمية تتعلق بالجينات والطب النفسي والدماغ، فهو لم يتوان عن استخدام أسلوب سهل ومُبسّط كي يستطيع أي قارئ مهما كانت خلفيته الاستمتاع به. من خلال الربط بين التطوّر واضطرابات العقل والإبداع، يدفعنا المؤلف إلى إعادة النظر في طبيعتنا البشرية. يُذكّرنا بأنّ تعقيد أدمغتنا يعود إلى عوامل عدة بيولوجية وبيئية وثقافية، ليخلص إلى أنّ الإبداع يتأتى غالباً من مواجهتنا لشياطيننا الداخليّة.