«لماذا لا أكتب كلّ ما أراه جديراً بالكتابة فوراً؟ لماذا أتركه يتسرّب إلى الذاكرة كي أكتبه بعد عامٍ أو عشرة أعوامٍ؟ امتحان الكتابة أم امتحان الحواسّ؟». هذان السطران الواردان في الصفحة 26 من «دفاتر العزلة والكتابة ـــــ الدفتر الأوّل»، يُلخّصان ربما حكاية النسر الذي أجلسه الروائي والسيناريست السوري خالد خليفة على طاولة مجاورة، ليُقدّم للقارئ من خلال كتابه «نسرٌ على الطاولة المجاورة» (نوفل/ هاشيت أنطوان) وجبةً دسمةً للقراءة، أقرب إلى ورشة عملٍ مجانيةٍ حول الكتابة، هي حتماً مُلهمةٌ ومفيدةٌ للكُتّاب، وخصوصاً الهاوين ممّن لديهم تساؤلات حول الكتابة كمهنةٍ احترافيةٍ وكحالةٍ إبداعيةٍ. سيجد هؤلاء أنفسهم أمام سلسلةٍ من «الإرشادات» مكوّنةٍ من ستٍ وسبعين إرشاداً، جاءت في مئةٍ وسبعٍ وعشرين صفحةً، يسردها خليفة بأسلوبه الرشيق، الممزوج بالشغف، الغَني بالحكمة المتعلّقة بعالم الكتابة، والنابع من التجربة والممارسة اليومية، والخالي من التنظير المُمل والنصائح المُعلّبة.

كان الوقت فجراً، عندما انتهت سهرة خليفة مع أصدقائه، أو بدقةٍ لم تنتهِ تماماً، لكنّ شيئاً خَفيّاً كان قد تسرّب إلى ذاكرته ووشوشه للعودة إلى منزله البحريّ الكائن في «منطقة الدراسات» في اللاذقية! يومها شعر بأنّ هناك موسيقى تدعوه للرقص منفرداً؛ ليكتشف بعد خروجه أنّ ثمّة عطلاً في سيارته، ما استلزم انتظار حلول الصباح ليتمكّن من الاستعانة «بميكانسيان». وهنا أصبح أمام خيار العودة إلى منزل الأصدقاء أو الرقص؛ وهذا ما اختاره خليفة: الرقص مع الكلمات. سحب دفتراً موجوداً في سيارته، ثمّ ترجّل منها، اشترى القهوة من بائعٍ يتجوّلُ مصادفةً في مثل هذا الوقت الباكر، ونجحت مصادفةٌ ثانيةٌ بأن يستعير قلماً منه، ثمّ ببساطةٍ كتب عبارته: «دفاتر العزلة والكتابة – الدفتر الأول». هكذا بدأ الأمر ثمّ امتدّ على فتراتٍ متقطّعةٍ، وهو يكرّر كلّ يومٍ: «الشيء الوحيد الذي أعرفه عن الكتابة، حتّى الآن، هو ضرورة الجلوس إلى الطاولة ساعاتٍ طويلةٍ بشكلٍ يوميّ، كأيّ عاملٍ في المصنع، على حدّ تعبير أرنست همنغواي».
هذه العبارة الذهبية، التي ما زال خليفة يكرّرها أمام نفسه والآخرين المهتمين بالكتابة بعد ثلاثة عقودٍ من عمله في الكتابة واحترافه لها، أوردها كمقدمة للإرشاد التاسع والعشرين من الكتاب.
ولفهم عبارة خالد الشعرية «اخترت الرقص مع الكلمات»، ما عليك إلّا أن تقرأ الإرشاد الثالث عشر حيث ستجد مقاربةً مذهلةً بين كتابة الرواية والرقص: «كتابة الرواية تشبه الرقص. يبدو هذا التشبيه غريباً، إلّا أنّه حقيقيّ بالنسبة إليّ. فالرقص انطلاقٌ من الثبات إلى الحركة، وعودة إلى الثبات مرّة أخرى، ضمن فضاء يحكمه الإيقاع. وكتابة الرواية انطلاقٌ من البياض إلى السواد، والعودة مرّة أخرى إلى البياض، في فضاءٍ أيضاً يحكمه الإيقاع. الهواة غير المحترفين في كلا الفضاءين. الكاتب المحترف كما الراقص المحترف، يستطيع أن يبدأ الرقص فور سماع أيّة موسيقى، لكنّه يحتاج إلى لحظة يُشرق فيها جسده وتطير روحه، عندها يصبح المتفرّجون غير موجودين، يتلاشون رويداً رويداً ويختفون من حوله. الكاتب الهاوي كما الراقص الهاوي، لا يرقص إلّا إذا استبدّت به الرغبة الشديدة، فيبدو مندفعاً، حارّاً، غير مكترث بالإيقاع الذي يلاحقه، ومهما حاول، لا يستطيع خلق إيقاعه الخاصّ لسرعة مروره على البياض، وتخطّيه للحظة الرغبة، يبقى الآخرون بالنسبة إليه موجودين، يحيطون به ولا يستطيع الإفلات من نظرات إعجابهم أو استهجانهم».
يرى خليفة أنّ الكاتب يشبه النّسر كثيراً. بينما يبدو الكاتب أنّه يجلس في يومٍ رتيبٍ، تفاصيله متكرّرةٍ ومملةٍ، يكون في الحقيقة يقظاً ومترقّباً لحدثٍ غريبٍ ينقضُّ عليه مفترساً لينقله إلى مائدة الكتابة. وهذا تماماً ما يحدث مع النّسر، الذي يبدو أنّه يُحلّق في السماء ويرى المشهد نفسه، في حين أنّه يترقّب فريسته لينقضّ عليها. وهذا ما أشار إليه في نهاية الإرشاد الثالث والعشرين: «من موقعي مقهى السويس في اللاذقية، والساعة الآن تُشير إلى التاسعة صباحاً، مع فنجان قهوتي الثاني، يتكرّر مشهد مرور الأشخاص والسيارات وباعة اليانصيب، تماماً كما في اليوم السابق، إلّا أنّني أنتظر أن يحطّ نسرٌ على الطاولة المجاورة ويطلب قهوته، يجلس إلى كرسيّه ويتأمّل المارّة، رغم استحالة هذا إلّا أنّني أنتظر أن أنتظره، أو أنتظر فعلاً ما يُشبهه، كحقيقة غير قابلة للجدل».
الحماقة جزءٌ رئيسيٌّ من الكتابة


في إرشادات خليفة، ستتعلّم أنّ الحماقة جزءٌ رئيسيٌّ من الكتابة. وستتنبّه إلى أنّ النسيان الذي يسعى الكاتب إليه في لحظةٍ ما، سيصبح الوحش الذي يخيفه لحظة احترافه للكتابة. وستتعلّم تقبّل فكرة أنّ الكثير من الناس يخافون الكتّاب، ويتجنبون صداقتهم العميقة خشية البوح بالجزء المتعلّق بسيرهم الشائنة، وسيكتفون باستعراض أمجادهم وتضحياتهم. وستعلّمك الكتابة لعبة طرح الأسئلة القديمة، التي ستغدو معاصرةً وجديدةً بمجرد طرحها. وسيبرد قلبك عندما يُخبرك أن غيظ البعض هو جزء من نصر الكاتب، الذي سيتحول تدريجاً إلى كراهيةٍ، ستصبح بدورها جزءاً من مجد الكاتب، وأنّ أقسى ما يُحيط بالكاتب وبمهنته هو الحسد. ستتعلّم الحذر من الوقوف في وجه الأفكار، وضرورة الاستعداد الدائم للسماح لها بالانسياب على الورق، تاركاً مهمة تطويرها ونموها للزمن. وستستمتع مع تفاصيلٍ أخرى، كثيراً ما جالت في خاطرك حول الكتابة وأسرارها وخباياها، لتتأكد أنّ خليفة من خلال دفتره الأول لسلسلة «دفاتر العزلة والكتابة» يُقدّم لك أسراراً عن الكتابة، كثيراً ما ستلهمك، وكثيراً ما ستُخفف عنك أعباء المشاعر السلبية والمزاج المتقلّب والشكوك التي لا تنتهي، خلال رحلتك في عالم الكتابة.