يستأثرُ العالم الداخليّ للمرأة باهتمام متزايد. مُذْ نظّر رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد للمرأة كرجلٍ ناقص لم يكتمل نموه؛ بدا أنّ تحقيق التوازن لديها لن يكون سهلاً؛ بل إنّ الحلول في حالتها محدودة؛ فالصعوبة تكمن في «البذرة» لا في القشرة، ومن جوهر المرأة ذاتها ينبعُ الاضطراب، فهو جزء من تكوينها الجسميّ ووظائفها البيولوجيّة وتركيبتها الانفعالية وفق هذه النظرية. لا يبتعد الفيلسوف التشيلي جون باينز (1935) في مؤلَّفه «سيكولوجيا المرأة» (دار كنعان- ترجمة علي الأحمد) عن هذا الفهم، فالكتاب المستند إلى دراسات سريريـة لعيّنة واسعة من النساء في تشيلي، يدفع بالموجةِ إلى الأمام رغم وقوعه في فخ التعميم.يشرِّح الكتاب التكوين البيولوجيّ لكلٍّ من المرأة والرجل، ويخلُص إلى أن الاختلاف «مرده نقص في بنيتها الجسدية»، ما يتسبّب لها في عقد كثيرة أهمها: الخصاء وما يلزم عنه من حسد وتدنٍّ في احترامها لِذاتها أمام تكوين الرجل «المثالي» وهرموناته ومنها التستوستيرون الذي هو منبع العدوانية و«الدافع للتغير والتقدّم الحضاريّ».


يضعها الكاتب في مقارنة جائرة: في مقابل حيوية الرجل الماثلة في «الحيوان المنويّ»، تتجسّد سلبيّة المرأة عبر «البويضة». سيقع المؤلف في فخ المقدمات المغلوطة التي تنتهي إلى نتائج متناقضة. كأمثلة على غياب الموضوعيّة في أحكامه، سنقع على تعميمات من قبيل «لسان المرأة السّام هو أحد أفظع الأسلحة»، أو اتهامها بدونيّة جوهرها ثم مطالبتها بالسموّ عليه.
ويتابع في هذا السياق تعداد سمات المرأة ومنها: السلبية والمازوخيّة والنرجسيّة التي تكاد تكون طبيعة ثانية عندها. لذلك في منحى تعويضيّ، ستتمحور حياتها للحصول على رجل وستتحدّد هويّتها الأنثويـة عبره، فهي ابنة شخص ما وزوجة شخص ما. وعلى المستوى الوجودي، نجد «الأنا» عند المرأة فارغة وسطحيّة ومجوّفة. إنها رهينة الخارج تنتهي بأن تعامل نفسها كشيء وتلقي ذاتها في العراء... العراء الذي يجعلها تحاول إغواء الرجل عبر الجمال الجسديّ: «ينشغل الرجال بأنفسهم طوال الوقت، أما النساء فيكون الرجال شغلهن الشاغل؛ لأنهن يفتقرن إلى القيم الخاصّة». بالنسبة إلى المؤلّف، فإنّ قيمها معدومة، هي مجرد حارسة لرغبات الرجل. حتى الأمومة ستتعرض لنقدٍ شديدٍ في هذا السياق، إنها ليست حالة سامية، بل مجرد شعور غير مستقر وجِد لخدمة مجتمع ذكوري، والولادة فعل عصابيّ ومحاولة يائسة لإثبات الأنوثة. تصبح المساواة كقيمة ــــ تؤرق النصوص التشريعية والحركات النسوية ـــ مستحيلةً وفق هذه البنية النفسية؛ حيث المرأة تضطهد ذاتها وتُعيق مساواتها لا الرجل! أما التعليم، فهو لم يؤثر على تطورها الشخصيّ بل زاد من حقوقها فقط. لقد أشار فرويد قبلاً إلى أنّ أمام المرأة، إمّا كبت حياتها الجنسيّة، أو تقليد الرجال. وثمة طريق ثالثة أسماها «الأنوثة المستقرة». لذا سيتلقف مؤلف «أخلاق القرن الحادي والعشرين» هذا الخيط لتشريح «الأنوثة العميقة»، عبر بثّ الدماء في عروق المبدأ السقراطي «اعرف نفسك بنفسك»، ليحدد العشبة الضارة في تربة روحها، بمعنى أنّ الانفعالات العاطفية والتهيج العقلي هما السبب في بقائها مجرّد تابع.
أما الطريق نحو «الأنوثة المستقرة»، فيتطلب مراقبة مستمرة لأعماقها. يطلق باينز على هذا تسمية «إتقان الذات»، أي معرفة المعادن الثمينة التي تنتظر اكتشافها والصخور التي يجب التخلص منها. وعبر الاستبطان، يقدم 33 نصيحة على شكل أسئلة توجّهها المرأة لأعماقها عمّا يغضبها أو يجرحها وعما يسعدها في الحب عن المخاوف والرغبات: «فمن يفهم، يملك كلّ شيء»، لتحويل غير الواعي إلى سلطة الوعي، فلا تعود حياتها غنية بالأحداث بل ستعرف كيفية استخدامها، فالمظهر الجنسي الذي يُبرز الأنثى يحجب في الوقت نفسه المرأة الحقيقية التي تطور مركزاً نفسيّاً ثابتاً يتحدى ظروف الحياة المتغيرة. وبهذا الوعي، تتحول إلى أنا بالغة ناضجة تقدّر نفسها، ولا تعود مجرّد رحمٍ بيولوجيّ بل رحِم نفسيّ وهي «ستتصور نفسها فيه لتلِد نفسها من جديد». إنّ قيمة التجارب المؤلمة على قسوتها، يجعلها ضرورية لنموّ عالمها الداخلي، ولن تشعر بالملل أو الحاجة لأن «مساحتها الداخليّة ضخمة جداً».
يقع المؤلف في فخ المقدمات المغلوطة التي تنتهي إلى نتائج متناقضة


تدرك كل امرأة ما يتحدث عنه باينز، الذي يرى أن التطور هو ألا تنتظر شيئاً من الخارج بل من ذاتها. إنّ ما يتحدث عنه يتجاوز المفهوم النفسي، إلى الانبثاق الروحيّ «المرأة التي حققت تطورها الروحيّ الكامل، لن تعتمد على الظروف الحياتيّة، وستكون قادرة على تحديد مصيرها». يحدد المؤلف الشروط اللازمة لمعرفة الذات، لكن تحقيقها يبدو صعباً في ظل تركيبة المرأة الجسمية، والبيو-نفسية التي حدّها بها. واللافت أنه ينظر إلى عدوانيّة الرجل كعامل مؤثر في التغير الحضاري «نظراً إلى نظامها الهرموني وعدوانيتها الأقل، فإنّ ذلك يقلل من فرص نجاتها وقوتها مقابله». لكن العدوانيّة ذاتها تتحول إلى سمة سلبيّة في المرأة «أنا مقتنع أن عقدة الإخصاء هي سبب عدوان المرأة الشديد الذي يؤدي إلى زيادة إفراز هرمون التستوستيرون الذي يحولها إلى امرأة ذكورية». تمتد تعميمات الكاتب وتأثره بالفكر الدينيّ في نظرته إلى المرأة ككائن مخادع وماكر، إضافة إلى استحالة قيام علاقة سوية بينها وبين الرجل، لبُعدها عن الصدق وعقدها. لذلك يطالبها فجأة بضرورة تنقية القلب.
لعل الأهم في هذا هو الاستبطان، بكونه طريقةً لتشريح الذات، تساعد على تمييز الرواسب العميقة المعيقة لتطورها والإفادة من الثروات الثمينة؛ التي ستتيح لها تكوين أنا ناضجة مركزها داخليّ. ووفق هذا الفهم للأنوثة العميقة، ولعظمة الذات الداخلية بما تحويه من سمات كالحدس والبصيرة والإلهام؛ ستحرر نفسها من السقوطِ للخارج، ستتحرر من تبعيّتها لجسدها وللثقافة ولنظرة الرجل إليها؛ ولن تكون العلاقة بين أقل وأدنى بل بين مختلفين.
فأيّ ذلٍّ يتعرض له الإنسان ــــ وهذا ينسحب على كل مجالات الحياة ـــ ليس ممكناً إذا لم يَحُزْ موافقتنا الداخليّة، «ولا شيء يمكن أن يحرِّر الشخصَ من الإذلال إلا هوَ نفسه».