في كتابه «في معنى المكان: وحي من دروس المقاومة المقدسية» (مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، 2023)، يمارس بلال سلامة نقده للطبقة «الوسيطة»، لا الوسطى، محتالاً على تسمية قديمة أطلقها بارثا تشاتيرجي، قبل خمسين عاماً بالتمام والكمال، على هذه الطبقة نفسها، وهي تسمية «الوسطاء» Mediators. أطلق تشاتيرجي هذه التسمية ليس على فواعل «لثورة المضادة»، بل على مختلف تشكيلات الحركة الوطنية المتحوِّلة من حالة النضال إلى حالة الاستقلال. هنا، يرصد سلامة هذا التحوُّل السياسي في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، الذي سمّيناه في ما مضى «حالة النفق»، ويعرِّيه. فعلى الرغم من استمرار «إسرائيل» كدولة مستعمِرين استيطانية، فإن الحالة الفلسطينية شهدت خمسة تحولات مركزية شكلت السياق التاريخي لتحوُّل منظمة التحرير الفلسطينية إلى سلطة فلسطينية، ابتداءً بمشروع السلطة الوطنية (1974)، وانتهاء بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني (1996)، وهي: (1) تحويل حركة التحرر الوطني الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية) إلى وكيل استعماري (سلطة فلسطينية)
(2) تعديل رؤية الجماعة الوطنية الفلسطينية المتخيلة عبر استثناء جزأين مكونين أصيلين من الشعب الفلسطيني، وهما فلسطينيو 1948، وفلسطينيو الشتات.
(3) تحويل المجتمع المدني الفلسطيني الفتيّ من كونه جزءاً من الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار، إلى جماعات من «الوسطاء» تعمل على التعايش مع الاستعمار و«تفكيكه».
(4) تشريع الأبواب أمام المبادرات السياسية والثقافية المتنوعة لحل «المسألة الفلسطينية» بعدما جرى تفتيت «القضية الفلسطينية» مثلما عرّفها الميثاق الوطني الفلسطيني (1968).
(5) استبدال سياسات الذاكرة بسياسات النسيان.
صحيح أن هذه التحولات سبقت «هبة القدس» و«سيف القدس»، لكنها تجلَّت في صور جديدة خلالها. رصد سلامة هذا التجلي في صورتين من المثقفين: المثقف المشتبك الذي يؤمن بأنه يمكن الانتصار في «حرب الأمكنة» ويدافع عن ثقافة المقاومة، والمثقّف المرتبك الذي لا يؤمن إلا بالهزيمة لئلا يخسر مكانه في ساحة لم تعد له. ولعل هذه الجرأة التي مارسها سلامة في نقد الثقافة الفلسطينية، التي فقدت نصابها أو كادت، لولا عديد الأصوات الفاعلة قبل المعركة وخلالها ومن بعدها، لا يدانيها في الحدة والجرأة والصدقية إلا توصيف الأسير وليد دَقَّة للصدأ الذي اكتنف هياكل المؤسسة الرسمية الوطنية، والغبار الذي علا مقولة مثقفيها (سواءً المتمترسين خلف قداسة منظمة التحرير الفلسطينية وتمثيليَّتها، أو مروِّجي نوستالجيا الثورة الشعبية المعلَّبة والمختومة بختم السلطة الفلسطينية السلمي)، يقول دَقَّة:
«لم تكن الفنارات غاية السفن، ولم تعد تُستخدم لتؤشِّر لها موقعها في البحر، ولا سيما في زمن يَستخدم فيه البحارة نظام الـ GPS. وتقديراً لها، ولهذه الحقبة الزمنية من تاريخ الإبحار، حوَّلتها شعوبها، في بعض البلدان، إلى متاحف أو مقاهٍ يطل منها محتسو القهوة على زبد الموج من دون أن يتعرَّض للبلل. فهي تبقى أقرب نقطة للبحر، لكنها أبعد نقطة لدخوله. في وطننا، تُصرُّ الفنارات على أنها غايتنا، رغم أنه لم يعد هناك مَن يسترشد بمؤشِّرها المعطَّل، إلا أنها تُطلُّ من حين لآخر وتضيء على البرج معلنة أنه «لا جديد تحت الشمس»، فالبحر هو البحر. وتذكِّرنا بـ «العاصفة» و«الصاعقة»، بنفس اللغة الخشبية. وربما كانت خشبية الخطاب في زمن من الأزمنة، قبل اكتشاف بعض المعادن، ضرورية لاكتشاف ملوحة البحر حتى لا ينال منها الصدأ. لكن، ماذا بشأن التكلُّس الأخلاقي؟ في زمننا، فناراتنا تكلَّست فَصَّالات مداخلها، وعند بواباتها الأيديولوجية الموصدة بالمصالح التي جزأت البحر إلى بحيرات، تقف طوابير من الشباب والشابات، تمتلك المهارات والخبرات، وتنتظر فرصتها في تحديث البرج بمفردات خطاب عصرها وهمومها، أو ربما بنظام الحاسوب على أمل أن يظهر المستقبل على شاشته. لكن فناراتنا ترفض إحالتها إلى التاريخ، وتعاند منطق الطبيعة والحياة، وتصرُّ أن يبقى ماضيها حاضرنا المستمر، فلا بد، بالرغم من ذلك، من البحث عن المستقبل. لكن في هذه الأثناء، وإلى حين أن نطلق قمرنا الصناعي الخاص، سنهتدي إلى فلسطين الوطن بـ GPS أخلاقي، تحمله كل شابة وشاب بوجدانه وإحساسه الطبيعي بالعدالة، ويحمله كل فلسطيني في عقله وقلبه أينما وُجد».
إن جرأة سلامة، ابن هذه الحركة الوطنية التي أصابها الوطن وابن رافعتها الكبرى-منظمة التحرير الفلسطينية، في «تصويب المفاهيم»، هي قرار منهجي، لكنها، كذلك قرار أخلاقي لا لنقد الماضي، بل لنقد من يدَّعون أنهم بلغوا حاضراً يرفض حضورهم، ومستقبلاً يرفض استقبالهم... لا لشيء إلا لأنهم تنكَّروا لماضيهم وخانوا ذاكرته الثورية. ولذا، فإن نقد سلامة للحنين المفتعل لـنوستالجيا «الوسطاء»، الليبراليين والمحافظين على حد السواء، إلى «ثورة شعبية» مقلَّمة الأظافر، تسير معاقةً إلى الأمام وهي تنظر إلى الخلف... هو نقد لمثقف السلطة، وليست أي سلطة بل السلطة الفلسطينية التي تقول: أنا أو لا أحد، أنا أو خراب البلد. يقول سلامة: «إن تقديس الطبقة الوسيطة؛ من سياسيين، ورجال أمن، وأحزاب، وموظفي المنظمات الحكومية وغير الحكومية، وليبراليين... إلى آخره، للانتفاضة الشعبية نظراً إلى سلميّتها، حتى إن لم تكن المقاومة الشعبية كذلك يوماً، بل أصبحت كذلك بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، وأصبحت تحيل على اللاعنف والسلبية المفرطة، وتعرية العدو، والكشف عن وجهه البشع... إلى آخره، يعبر عنها عبر أغنية تعكس الموقف السياسي الفلسطيني «ازرع ليمون... ازرع تفاح» وهي محط للسخرية من اللاعنف الرسمي في الشارع الفلسطيني، إذاً فما بال هذه الطبقة الوسيطة تشجعه وتحبذه دون غيرها؟».
هنا اعتلَّ الجسد الوطني الرسمي، وتحوَّل نشاط فصائل الحركة الوطنية إلى نشاط انتخابي، واكتملت قنطرة «الثرثرة الوسيطة» ليعبر الرسميّون إلى أمكنتهم التي حددها لهم أعداء الشعب وحلفاؤهم، لا إلى القدس، ولا إلى أمكنتها الثلاثة التي عمل المقدسيون، ومن شاركهم في «الفزعة» التاريخية الكبرى من كل بقاع فلسطين، على افتكاكها، في: الشيخ جراح، وباب العامود، والمسجد الأقصى. هناك، تجلى دور المثقف في الحضور في المعركة، فـ« دور المثقف المشتبك في إيقاف ثرثرة العقل وإسكاته أو النوستالجيا في نقد المقاومة تحت ذريعة التغني بالانتفاضة الشعبية، هو أبعد ما تكون للشعب من أرواح الأمكنة التي ينبع منها الحضور والمقاومة الشعبية والتجربة المشتركة التي تراكمها الجماهير في حرب الأمكنة؛ فعلى المثقف أيضاً أن يكون متصلاً على نحو ملموس بالمعركة المحسوسة، ويقرأ ما هو لمصلحتها ولمصلحة الشعب، والحضور في القدس، التي طالب بها من الناحية المعنوية، والتي كانت المقاومة الغزية موفقة من حيث ربط إعلانها المقاومة وإطلاق صواريخها تحت مسمى «سيف القدس»، لما للاسم من معنى ودلالات غنية تلائم الحدث والمكان، وليس لمطالب مرتبطة بفك الحصار عنها، وعلى الرغم من أهميته».
لقد أجاب الكتاب على أسئلته، وأحسن الإجابة. ثمة جوانب أخرى يمكن التوقف عندها، منهجياً، كاستدعاء مقولات نظرية غربية من باب «لزوم ما لا يلزم». بالتأكيد لا يمارس سلامة «التفحيط النظري»، لكنه، باستثناء القديس المحارب فرانز فانون، استدخل بعض المقولات التي يمكن الاستغناء عنها. لكن السؤال الكبير المفقود، ربما ليس عن الكتاب فحسب، بل عن الخطاب الثقافي الفلسطيني بأسره اليوم، هو: من الذي أجهض حلم المقدسيين والفلسطينيين عموماً بافتكاك مكانهم من عدوهم الصهيوني بعد إضرابهم التاريخي الذي أعاد الفصل بين العرب والمستوطنين في 21 أيار 2021؟ من الذي ألقى الصمت على القدس؟ ومن الذي أخرس الضفة أو كاد، اللهم من كتيبةٍ وعرين؟ ومن الذي أعاد فلسطين الـ 48 إلى ثقافة «واحد حمص واحد فول» ونسي «أخت «المشمار غفول» [قوات حرس الحدود]»؟ ومن الذي حاصر غزة، وأغمد بعض سيوفها، وأخمد اتساع نارها، ونزع تفوُّقها الأخلاقي في مقاومة العدو؟ ومن شتَّت شمل الشتات؟ ومن أضاف قيوداً على قيود المقيدين من الأسرى الفلسطينيين في «الجغرافيا السادسة»؟
لا شك في أنّ الإجابة برسم الجميع، والفعل لاستعادة الفاعلية برسم الجميع. لكن المرء لا يتوقف عن التفكير في تضافر أخطبوط الأعداء والوكلاء الوسيطين على خنقِ حلم «هبة الكرامة» التي انطلقت من القدس إلى عموم فلسطين، وثَلْمِ سيفها: من تفعيل مؤسسات العدو الصهيونية وإيقاظ نزعات رجعيِّة في القدس؛ إلى تغييب الراحل نزار بنات في الضفة الغربية على يد أجهزة أمن السلطة؛ ومروراً بإطلاق العنان لعصابات الإجرام وكسر شوكة الحراكات في فلسطين المحتلة في عام 1948 على يد أجهزة أمن العدو؛ ورشوة بعض رسميَّات غزة لإجهاض «وحدة الساحات»؛ وانتهاءً باستزلام جغرافيات الشتات وتجريم المبادرات الشعبية بمقولة «الأجندات المشبوهة» و«الثورة المضادة» إن لم تسبح بحمد المنظمة والسلطة، وتفعيل مساعي «الكابو» للالتفاف على منجزات الحركة الأسيرة في السجون الصهيونية لتصير ساحة أخرى من ساحات «ملهى الإغواء والإغراء».
ليس الكمال واحداً من أسماء البحث الحسنى، بل النقص الفعَّال الذي يترك مجالاً لمثل هذه الأسئلة، ويمنح الباحثين ميداناً آخر لاختبار اليقين. وبهذا، يكون بلال سلامة قد ترك في المنهاج المفتوح لدروس المقاومة الفلسطينية صفحة بيضاء لا تزال برسم الكتابة.

* القدس، فلسطين المحتلة