الأسير باسم خندقجي، المولود في مدينة نابلس المحتلة في سنة 1983، هو عضو في اللجنة المركزية لحزب الشعب الفلسطيني، وأحد أبرز مفكّري الحركة الفلسطينية الأسيرة. تتنوّع نتاجاته بين الكتابة الإبداعية، شعراً ورواية، والكتابة الفكرية، السياسية والتاريخية والنظرية، وبخاصة في مجال دراسات السجن. وقد اعتُقل في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 2004، وحُكم بالسجن المؤبّد ثلاث مرات بتهمة العمل الفدائي خلال انتفاضة الأقصى. ولا يزال على قيد الأسر في قسم العزل الجماعي في سجن «عوفر» الصهيوني قرب بيتونيا جنوب-غرب مدينة رام الله المحتلة. وعلى الرغم من انقطاع مسيرته الأكاديمية كطالب في قسم الصحافة والإعلام في «جامعة النجاح الوطنية» على إثر الأسر، فقد تمكّن خندقجي من الحصول على درجتَي البكالوريوس والماجستير في «الدراسات الإقليمية-مسار الدراسات الإسرائيلية» من جامعة القدس (2016)، بإشراف القائد الوطني مروان البرغوثي في «جامعة هداريم»، ويعمل حالياً على استكمال دراسة الدكتوراه وهو في الأسر.

ينشر خندقجي أبحاثه في مجلة الدراسات الفلسطينية، وقد أصدر مجموعتين شعريتين، هما: «طقوس المرَّة الأولى» (2009)، و«أنفاس قصيدة ليلية» (2013)، فيما أصدر خمس روايات، هي: «مسك الكفاية: سيرة سيِّدة الظلال الحرَّة» (2014)، و«نرجس العزلة» (2017)، و«خسوف بدر الدين» (2019)، و«أنفاس امرأة مخذولة» (2020)، و«قناع بلون السماء» (2023)، فيما لا تزال مخطوطة «محنة المهبولين» برسم النشر.
في عمله الأخير «قناع بلون السماء»، يبلغ خندقجي ذروة الإتقان في مشروعه الروائي عبر «وجه» المواطن الفلسطيني الأصلاني و«قناع» المستوطن الصهيوني المستعمِر. في الخط الحكائي ومستويات الهندسة السردية، يفصح خندقجي عن نضج لافت في التركيب الفني، ويوزِّع حصيلته المعرفية الموسوعية على سبر القضايا التاريخية والسياسية والأخلاقية التي تتموضع المأساة الفلسطينية في القلب منها. تحكي الرواية قصة بطلها «نور الشهدي»، وهو اللاجئ من مدينة اللد المحتلة في مخيم غير مسمّى قرب مدينة رام الله المحتلة، والباحث في حقل الآثار لاجتراح فتح جديد في سيرة مريم المجدلية. وتشاء الصدف أن يعثر «نور» على بطاقة هوية زرقاء لمستوطن، يصير البطل «النقيض» في الرواية، يُدعى «أور شابيرا» في جيب معطف اشتراه من سوق العتق في مدينة يافا المحتلة بعدما نجح في الهروب من «شرطة الاحتلال» خلال عمله بلا تصريح في فلسطين المحتلة في عام 1948. تلمع فكرة انتحال الهوية في ذهن «نور»، ويسجِّل في بعثة أميركية يقودها «معهد أولبرايت» لأبحاث الآثار تستهدف موقع «أبو شوشة» الذي أقيم عليه «كيبوتس مشمار هعيمق» غربي مرج بن عامر في فلسطين المحتلة. وخلال التنقيب، يتعرَّف إلى «سماء إسماعيل»، الحيفاوية التي تردُّه إلى «رشده» في ضرورة الاحتفاظ بوجهه الفلسطيني ونبذ قناعه الصهيوني خلال مهمته المستحيلة في كشف سر مريم المجدلية... ويعزز من جهود حبيبته الفلسطينية الجديدة صوت رفيقه الأسير مراد، الذي يلازمه، ويبدو كمعادل موضوعي للروائي نفسه، على امتداد الرواية التي يمكن تكثيفها درامياً في ثلاثة أداءات: وجه، وقناع، وكشف.
تعرِّفنا رواية خندقجي بشاعر وروائي ومنظِّر يدشِّن منحنى تعويضياً للحرية على المستويات النفسية والثقافية والسياسية والأخلاقية وفي إطار جمالي يعزُّ نظيره في كتابات الحركة الفلسطينية الأسيرة. يصعد خندقجي درجة أخرى في مشروعه الثقافي (القناعات) ومشروعه الجمالي (الأقنعة) وهو ينجز مشروعه الأخلاقي (خلخلة القناعات ونزع الأقنعة). ينشغل الروائي في صناعة الأقنعة (تعمية العلاقات)، وينشغل الشاعر في وصف الوجوه (تعرية العلاقات)، وينشغل المنظِّر في الترافع عن جدارة الوجوه بنزع الأقنعة (تهديم علاقات وتدشين أخرى في معركتَي الجوهر والوجود بين الضحية وجلّادها). وفيما يبدو خندقجي مقتنعاً بنصيحة محمود درويش الشعرية «لا تكتب التاريخ شعراً»، لا يبدو مقتنعاً تماماً بنصيحة إلياس خوري الروائية بأن «على الفلسطينيين أن يحوِّلوا تاريخهم إلى تاريخ». ولذا، تزجُّنا روايته في متاهة التصنيف، غير الضروري على أي حال، بين كونها رواية سيرية/«رواية الذات»، أو رواية تاريخية/«رواية الآخر»، أو رواية معرفية «رواية السجال بين الذات والآخر» الاستعماري، السجال الذي تحمله المقولات الفنية والسياسية والثقافية.
تختلط في الرواية أربعة أصوات: الروائي «باسم»، والراوي-الحاضر «نور»، والراوي-الغائب «مراد»، والقناع «أور». وتشترك الأصوات الأربعة في تدشين مقولة الرواية على امتداد ثلاثة أزمنة حكائية: تاريخية، وراهنة، ومستقبلية. يحرص خندقجي على خلق شخصية مظهرية تشبهه لدى البطلين «نور» و«مراد»، وحتى لدى البطل النقيض «أور» الذي كان لا بد له أن يشبهه ليصير قناعه. فهؤلاء الثلاثة يشبهون «باسم»، مظهرياً ومعرفياً، وإن اختلفوا عنه في تعبيراتهم السياسية والثقافية والأخلاقية. وبالتالي، فالرواية حقل دومينو مرصوف بالأقنعة: الأرض قناع، والتاريخ قناع، والدين قناع، واللغة قناع، واللكنة قناع، والاسم قناع... وفي لفتة فقه-لغوية، يلمِّح خندقجي إلى أن القناع هو مسخ لصاحبه الذي تم تحويله إلى محض قناع، فكلمة قناع بالعربية تعني «مساخ» بالعبرية، ومن جذرها الثلاثي يمكن استدراج كلمة «مسخ». وقد تمكَّن خندقجي في الرواية وببراعة من مسخ «أور»، الذي حتى اسمه بالعبرية يعني «نور»... ولكن خندقجي، في المقابل، لقَّن «نور» نفسه درساً عبر «سماء» مفاده أن قول الحقيقة الفلسطينية لا يحتاج إلى قناع أبيض بلون جلد المستعمِرين ولا هوية زرقاء بلون السماء المستعمَرة. فالقناع يمسخ من يرتديه بأكثر ما يمسخ من يشبهه. وفي هذا السياق، أضفت «البطاقات الصوتية» التي تحمل مقولات الأسير «مراد»، مسحةً ذهنية غير ضرورية على السرد. لكنّ تلك «البطاقات» (وهي فقرات تتضمن رسائل فعلية من الأسير «مراد» لرفيقه «نور» وأخرى متخيّلة يديرها «نور» مع نفسه) كانت حاضنة لتداخل أصوات الراوي والروائي والبطل والبطل النقيض. تعمل «البطاقات» كعتبات فنية بين التعريف والمعرفة، إذ إنها تعمل: أولاً، كعتبة تواصل بين الروائي «باسم»، والراوي الأول «نور»، والراوي الثاني «مراد». وثانياً، على وَقْعَنَة الرواية، أي جعلها واقعية، عبر التأطير السياقي وربط أزمنة السرد بين سيرة مريم المجدلية (العقدة) وسيرة سماء إسماعيل (الحل). وثالثاً، تشكِّل مساراً، يسلكه الروائي بين العقدة والحل، باستخدام «الكولاج» الذي يحيل السرد إلى «متروشكا» كتابية تغري القارئ بمواصلة البحث عن مريم المجدلية في الرواية التي داخل الرواية.
لقد عملت هذه التقنيات الفنية كرافعة أساسية للمقولات الثقافية التي تقترحها الرواية، وأهمها: أولاً، أن الفلسطيني، المحروم من الجغرافيا التي سيطر عليها المستعمِر الصهيوني، لا يمكنه استعادتها ولا استرداد المعرفة عنها إلا بانتحال «أدوات السيد لهدم بيت السيد»، عبر تحويل «حضوره» الاستعماري إلى محض قناع: الاسم، واللكنة، واللغة، والمعرفة، والتاريخ. والثاني، أنّ الفلسطيني (الروائي الأسير في هذه الحالة) في وسعه أن يُجلس المقولات النظرية على رأسها حين يتعلق الأمر بثنائية المستعمِر والمستعمَر. فقد استبدل خندقجي أداة السؤال الذي طرحه محمود ممداني وفاعله «متى يصبح المستعمِر أصلانياً؟» ليصير «كيف يمكن للأصلاني أن «يصبح» أكثر أصلانية؟» وإن في قناع مستوطن. كما سجَّل خندقجي «مثلاً نافياً» لأطروحة فرانز فانون «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» لا يزال برسم القراءة. والثالث، أنّ الفلسطيني قادر على الاستئناف على مقولات «تجنيس العلاقات الحضارية» عبر رفع موضع التصعيد الجنسي لأجساد المستعمِرين والمستعمَرين إلى منطقة الرأس: «وجه نور» الذي يعبِّر عن حضور قناعات الفلسطيني وعدالة قضيته وصدقية سرديته التاريخية؛ و«قناع أور» الذي يعبِّر عن غياب الصهيوني رغم حضور وحشيته وهشاشة سرديته الاستعمارية؛ و«كشف سماء» الجليلية عن أوهام التنقيب الأثري، وضرورة تحرير الحواس من دون حرق الغابة. هنا، ينتصر الوجه على القناع، وتتمكن «المجدلية الحاضرة/سماء» من استبدال «المجدلية الغابرة/مريم» عند خط النهاية من خلال إصرارها على استحالة التكافؤ الأخلاقي مع العدو، وعلى أن الفلسطيني لا ينبغي أن ينتظر انتصار الخير في «معركة هارمجدون» حتى يعلن انتصاره على عدوه الصهيوني أخلاقياً وعسكرياً.
اعتُقل عام 2004 وحُكم بالسجن المؤبّد ثلاث مرات بتهمة العمل الفدائي خلال انتفاضة الأقصى


في الدرس النقدي القديم، تعلَّمنا أن فصل الشكل عن المضمون جريمة، لكنَّ لكل جريمة كفَّارتها. ولعل الإبقاء على ثقافة السؤال حية هو أصعب كفَّارة يمكن دفعها. ولذا، لا بد من فتح «لون بلون السماء» على سؤالين: على مستوى الشكل، وبما أن الروائي ألزم البطل الفلسطيني بانتحال قناع المستوطن الصهيوني، فهل من الضروري تخصيص قسم مكوَّن من فصلين لكل من «نور» و«أور» ليقول كل «روايته»، وإن خُفّف القسمُ المخصص لـ«سماء» من هذا التناقض؟ وعلى مستوى المضمون، هل يحق للقارئ أن ينتحل هشاشة جان لوك نانسي ويسأل: من هو «المقتحم L'intrus» في هذه الرواية؟ والسؤال هنا ليس على مستوى «انتحال» الهوية في الطبقة الأولى للسرد الروائي، ولا حتى على مستوى الانتصار في كشف سر المجدلية في التنقيب الأثري الذي يجريه مستعمرون صهاينة ومستعمَرون فلسطينيون (برعاية أميركية)، بل في شرعنة حضور الجلاد بكل هذا الثقل وبكل هذا الصلف في رواية الضحية، وكأن مقولة «التاريخ العلائقي»، التي تشبه دمَّلاً مزمناً في القفا في السياق الأكاديمي، تُرجمَت إلى مقولة «السرد العلائقي» في السياق الروائي. بالتأكيد لا سبيل إلى الخلاص من هذه «الثنائية» في وقت قريب، على الأقل، حتى ينتهي الاحتلال... وإلى حينه، ينبغي على الفلسطينيين التأمل ملياً في سؤال محمود درويش القديم: «ماذا سنكتب إن انتهى الاحتلال؟». السؤال الذي سجَّل به درويش تراجعاً جمالياً ملحوظاً عن تأمله الأسبق: «لولا المسدس لاختلط الناي في الناي» و«من صاغَ سيرته بمنأى عن هُبُوب نقيضها وعن البطولةِ؟ لا أَحد».

*هذه المقالة هي خلاصة محاضرة أُلقيت في احتفال إطلاق رواية الأسير باسم خندقجي «قناع بلون السماء» (بيروت: دار الآداب. 2023) في 19 آذار (مارس) 2023 في حارة الياسمينة/حوش العطعوط في مدينة نابلس، فلسطين المحتلة.