رغم أن أكثر ما جاء في كتاب «ماذا صنع الله بعزيزة بركات؟» يعود إلى ما قبل ثورة 25 يناير 2011 في مصر، تلك الفترة التي نتج عنها خروج الناس إلى الشوارع، إلا أن معظم ما دوّنه الكاتب والسيناريست المصري بلال فضل (مواليد 1974) في هذا الكتاب من خلال حكاياته أو قصصه، يمكن أن يحدث في 2023 بشكل عادي جداً، وربما تزيد الأحداث في فظاظتها وخروجها عن المألوف والمعروف والقانون طبعاً.الصحافة كان لها النصيب الأكبر من حكايات كتاب «ماذا صنع الله بعزيزة بركات؟» الصادر حديثاً عن «دار المدى». من خلال ما حكاه فضل عن مهنة الصحافة في مصر، يمكن أن يكون الكتاب بمثابة أرشيف لهذه المهنة قبل ثورة 25 يناير وإلى الوراء حتى منتصف التسعينيات حين احترف بلال المهنة قبل أن يتخرّج في كلية الإعلام في جامعة القاهرة.


التعامل مع هذه القصص كونها «أرشيفاً»، يأتي في وقت تريد فيه وسائل الإعلام محو أرشيفها القديم، وخصوصاً في مصر. فمَن تحدث وصرّح بكلام محدد قبل 2011، لا يريد لمن حكموا بعد الثورة أن يعرفوا ماذا قال! ومن تحدث بعد عام 2011، لا يريد لمن يحكمون منذ 2014 أن يعرفوا ماذا قال عنهم قبل ذلك. لذلك تخلصت أكثر من صحيفة مصرية من أرشيفها القديم على الإنترنت. مثلاً، يتطرق بلال فضل في حكاية بعنوان «في صحبة حرامي الأنبوبة» إلى أزمة إقفال جريدة «الدستور» الأولى عام 1998 بقرار من الرئيس الأسبق حسني مبارك بعدما شكا له أحد رجال الأعمال ما تكتبه الصحيفة. كذلك، يتوقّف عند كيفية التعامل مع الصحافيين في النيابات العامة عند التحقيق معهم. كما يسرد حكاياته عن الحوارات الصحافية والعمل في الكتابة لصالح صحافية أخرى ـــ تنشر الموضوعات باسمها ـــ خلال فترة دراسته الجامعية، وكيف كانت تصدر صحف هامة في مصر بترخيص من قبرص لصعوبة الحصول على الترخيص المحلي من القاهرة. هذا ما جعل هذه الصحف تستعين بموظف من الرقابة يأتي للصحيفة نفسها لكي يراجع الموضوعات بنفسه، قبل أن تذهب إلى الصحيفة للرقابة نفسها قبل الطباعة! أي أنّ الرقابة كانت فاسدة وما «باليد حيلة».
ما حكاه بلال فضل عن الصحافة الورقية في حكايات «فخ الاستسلام للمرارة أو حالة الأستاذ عبد الحميد»، و«أنا والرجل الأخضر» و«كوكو واوا في نيابة أمن الدولة»... كلها تفاصيل شيقة، لكنّها أيضاً تؤرخ لعالم أصبح خفياً الآن عقب انتشار الإنترنت. ربما المشترك الأهم في ما حكاه عن الصحافة في مصر قبل 2011 أنّ الصحافيين لا يزالون يذهبون إلى السجن بشكل عادي جداً، أو إلى المنفى كما فعل بلال فضل نفسه الذي يعيش خارج مصر منذ سنوات، مكتفياً بالحديث عنها في مقالاته أو الفيديوات التي ينشرها على منصات التواصل الاجتماعي بشكل دائم.
لا تسير الحكايات/ القصص دائماً كما تتوقع، فحكاية «عم صلاح وتلفزيونه اللعين» عن تلفزيون الممثل المصري صلاح السعدني الذي كان يعتز به كثيراً حتى لحظة سرقته من شقته في الإسكندرية، لا تنتهي على المنوال نفسه الذي بدأت به. بل إنّها تذهب إلى قصة أخرى، ربما هي أقسى في تفاصيلها.
عزيزة راقصة أعجبته أثناء تمثيلها في أحد أفلام الأبيض والأسود


ورغم أن القصص حقيقية، لكن الكتاب يحفل بتفاصيل يغزلها بلال فضل بقلمه بأسلوب شيق يجعل القارئ يشعر أنه يشاهد فيلماً لبلال نفسه كما في حكاية «المجني عليها». هنا، يحكي عن ممثلة في بداية مشوارها الفني، وتكاتف الجميع لتقديمها في دور ما في فيلم يكتبه بلال فضل، لكن هذه القصة تتخذ منحى آخر وتتصاعد أحداثها حتى مقتل الممثلة على يد ضابط أمن دولة أجير لصالح أحد رجال الأعمال! بالطبع يعرف العالم العربي الآن من هي هذه الممثلة ورجل الأعمال والضابط! وما بدا لك خيالياً في بداية الكلام، تكتشف بعد قراءة عدد من الصفحات أنه حقيقي تماماً، وخصوصاً حين تمرّ الحكاية على أشخاص وأماكن معروفة متعلقة بحياة بلال فضل الصحافية، وتنقله بين كتابة المقال الصحافي والسيناريو السينمائي، ثم الجمع بينهما في فترات معينة. يطغى الأسلوب «السينمائي» على كتاب «ماذا صنع الله بعزيزة بركات؟». تقدم الحكايات تصورات كاملة عن الشخصيات المذكورة وخلفياتها التاريخية والاجتماعية، كل هذا يضفره الكاتب بلغة سهلة تجعل من اليسير على أي قارئ، وإن كان بعيداً عن عالم الصحافة، أن يستمتع بصفحاته، ولمَ لا وبلال فضل كتب قرابة 16 سيناريو أشهرها في السينما «واحد من الناس» و«خارج على القانون» اللذان أدى بطولتهما الممثل المصري كريم عبد العزيز في عامي 2006 و2007 على التوالي.
أما عزيزة بركات، التي استعان باسمها بلال فضل في عنوان كتابه، فهي راقصة أعجبته أثناء تمثيلها في أحد أفلام الأبيض والأسود المصرية. يحاول فضل كصحافي أن يعرف قصة حياتها، فيأخذ لها صورة من التلفزيون «غير واضحة المعالم» ويبدأ عملية البحث عنها.
يلتقي بمن يحكي له حكايتها كاملة، وهي حكاية ممتعة، حتى إنك كقارئ سترتاح لأنه أخيراً وصل إلى هذه الراقصة وعرف تفاصيل حياتها بعد معاناة لمدة سنوات، قبل أن تفاجأ بأنّ عامل الكلاكيت الشهير الذي سرد حكايتها وينقلها عنه الكاتب أراد هو الآخر أن يؤلّف قصة باعتبار أن «التأليف ليس حكراً على السيناريست».
ورغم أنّ بعض الحكايات قدمه بلال فضل قبلاً في مقالات أو حلقات مصوّرة عبر قناته على يوتيوب (أسّسها عام 2022 ليبتعد تماماً عن الرقابة!)، إلا أنّ وضعها في كتاب واحد جاء موفقاً أشعر قارئه بأنها حكايات كُتبت في فترة واحدة ولغرض واحد وهو النشر في هذا الكتاب لأنها تسير خلف بعضها باتساق شديد. هكذا، ينتقل القارئ من حكاية إلى أخرى، وقد بدأ يعرف أن ما بدأ به الكاتب الحكاية لن يسير في إطار واحد، بل إنّ هناك ما سيقلب الدنيا رأساً على عقب دائماً، ويفاجئ بلال فضل نفسه ومن ثم قارئه.