باريس.مستشفى بومبيدو.
الإثنين 27 كانون الأوّل (ديسمبر).
فجوة من الضوء في سماء مضطربة. تلك هي الصورة التي ولّدتها الموسيقى في رأسه. ترسم الجملة الموسيقيّة الطويلة لآلة التشيلو تموّجات مُنوّمة تحثّ على الاسترخاء. غارقاً في شبه غيبوبة، يشعر ماتياس بوتيرة نفَسه تتغيّر لتتكيّف مع إيقاع اللحن. ثمّ لا يلبث أن يستسلم لهذه الرحلة الداخليّة، تؤرجحه النغمات ويغمره سكونٌ لم يعرفه منذ فترة طويلة. كانت التوهّجات والأحاسيس تتدفّق من جديد. زرقة البحر الأبيض المتوسّط، الأجساد المتكاسلة على الرمال، القبلات المالحة على الشفاه.
بيد أنّ هذا النعيم لن يدوم طويلاً. فالسماء المُلبّدة بالغيوم تنذر بعاصفة قريبة. مشاعر متنافرة تتشابك، تعايشٌ مقلق بين اللامبالاة والاحتراس. فجأةً، انقطع الانسجام، كما لو أنّ قوس الآلة انزلق على الأوتار واندثر معه كلّ أمل باللذة.
فتح ماتياس تايفر عينيه.

صورة غلاف الرواية بالعربية

كان مستلقياً على سرير في المستشفى، مكتسياً بأحد تلك القمصان القطنيّة الباهتة المروّعة التي تكشف عن مؤخّرة كلّ من تستّر بها. في ذراعه قسطرة مغروسة وُصل بها أنبوبان لنقل السوائل إليه، وعلى يساره جهاز تخطيط القلب الذي يظهر نبضات قلبه السريعة. رفيقه في الغرفة، الكهل على السرير المجاور، لم يكن قد استفاق من غفوته بعد. كلّما نظر إليه خالجه انطباع رهيب بأنّه وُضع في ركن الرعاية التلطيفيّة بدلاً من قسم أمراض القلب. حلّ الصوت المتقطّع والكئيب للمطر محلّ صوت التشيلو الدافئ والنابض بالحياة. وعوضاً عن المتوسّط، أغرق الاكفهرار الباريسيّ كلّ ما حوله بالظلام. كانت الموسيقى في منامه قد حملته، لبرهة، بعيداً عن المستشفى وأجوائها، غير أنّ ذلك الملاذ سرعان ما اندثر.
حياة لعينة.
بصعوبة بالغة، عدّل ماتياس وسادته ليستقيم نصف استقامة. وإذا به يراها، مغمورة جزئيّاً بالظلّ: فتاة شابّة، جالسة بشكل منتصب على كرسيّ، وبين ساقيها آلة تشيلو. إذن، لم تكن الموسيقى نابعة من خياله. سألها متلعثماً:
– من أنتِ؟
– أُدعى لويز. لويز كولانج.
بدا له من نبرة صوتها أنّها في آخر سنوات المراهقة، لكن لم يبدُ عليها الوجل البتّة.
– وماذا... ماذا تفعلين في غرفتي، يا لويز كولانج؟ أتعتقدين أنّها المكان المناسب للتدرّب على حفل المدرسة؟
– أنا متطوّعة في جمعيّة «موسيقيّون في المستشفى».
أخذت تدنو منه، فزمّ ماتياس عينيه ليراها بشكل أفضل. شعر أشقر طويل وناعم يحيط بوجه بيضاويّ، غمّازة على الذقن، كنزة بالياقة المُسطّحة (كول كلودين)، تنّورة بأطراف واسعة مخمليّة، وجزمة من الجلد. شعلة أضاءت الظلمة التي خيّمت على سبات المستشفى.
– ألم تعجبك؟
– مقطوعة شوبرت؟ لا، لقد آلمت أسناني... وشعري.
– أنت تبالغ.
– ... وأيقظتني.
هزّت لويز كتفيها مُنزعجة.
– في العادة، يقدّر الناس هذه المبادرة.
– يقدّر المرضى أن يأتي أحد ويزعجهم في غرفهم في المستشفى؟
سحبت الفتاة الكرسيّ الجلديّ الأحمر بجانبه لتجلس عليه، ثمّ أوضحت:
– يُسمّى ذلك التحفيز الحسّي المضادّ للتوتّر. فالموسيقى تلهي المريض وبالتالي تخفّف من آلامه.
همس وهو يهزّ رأسه:
– هذا هراء. أتظنّين نفسكِ طبيباً؟ أين قرأتِ ذلك؟
– في كتب الطبّ، طبعاً. أنا طالبة في السنة الثانية.
– ولكن كم عمركِ؟
– سبعة عشر عاماً. لقد تخطّيت صفّين.
إن كانت تحسَب أنّها ستثير إعجابه... فتايفر ظلّ بارداً كالثلج. رأى في انعكاسات مقابض سريره المعدنيّة من الكروم أشلاء متحرّكة من وجهه المُتعب: شعر كثّ، صدغان رماديّان، لحية لم تُحلق منذ أسبوع، عينان زرقاوان دكناوان نهشهما الإرهاق.
– حسناً لويز، بما أنّك أنهيتِ حفلتكِ الصغيرة، يمكنكِ أن تغادرينا الآن.
أشار إلى السرير المجاور بإيماءة من ذقنه قبل أن يتابع:
– لا أظنّ أنّ لموسيقاك أدنى فرصة لإخراج جدّو هنا من تأثير الفورمول.
– كما تريد.
بينما كانت الفتاة تعيد آلتها الموسيقيّة إلى علبتها، أخذ تايفر يفرك جفنيه، منهكاً. كان قد نُقل إلى المستشفى في اليوم السابق بعد تعرّضه لنوبة قلبيّة بسيطة على ما يبدو، لكنّها تطلّبت سلسلة لا يُستهان بها من الفحوصات نظراً إلى تاريخه الصحّي وإلى خضوعه لعمليّة زرع. إذا جاءت نتائج الاختبارات جيّدة، فمن المحتمل أن يتمكّن من الخروج في اليوم التالي. بانتظار ذلك، عليه أن يعيش بضع ساعات أخرى في هذه الغرفة المشؤومة حيث يطفو شبح الموت.
لم يكفّ عن التفكير في كلبه الذي بقي بمفرده في المنزل، وفي الطقس النتن الذي حلّ على باريس مع نهاية هذا العام: أسابيع من الفيضانات والجوّ المكفهرّ، أفق مسدود طال أمده لدرجة أعطته انطباعاً أنّ الربيع لن يعود أبداً. والآن، هذه الفتاة التي لم ترغب في المغادرة...
– هل ما زلتِ هنا؟ صاح بها.
– دقيقتان! إنّني أرتّب أوراقي.
– أليس لديكِ ما هو أفضل من المجيء ولعب دور جاكلين دو بري في المستشفيات؟
هزّت لويز كتفيها.
– من هي جاكلين دو بري؟
– ابحثي عنها على الإنترنت. حقّاً، غادري هذا المكان الكئيب وقومي بما يتناسب مع عمرك.
– وما الذي «يتناسب مع عمري»، برأيك؟
– لا أعرف. اخرجي مع صديقاتك، تسكّعي مع الفتيان، اشربي حتّى الثمالة...
– ملهمٌ جدّاً.
خشّن صوته وقال:
– حسناً، هيّا الآن، إلى الخارج. اذهبي إلى المنزل إن لم يكن لديكِ أصدقاء أو صديقات.
– كم أنت غير ودود!
– لكنّكِ أنتِ من أتيتِ لتعكّري مزاجي! رفع صوته غاضباً.
حرّكت قرقرة طويلة أحشاءه. وضع يده على بطنه وبدت على ملامحه أمارات الاستياء.
– فضلاً عن أنّني أتضوّر جوعاً. هاكِ، إن كنت تريدين أن تكوني نافعةً حقّاً، فحاولي أن تجدي لي شيئاً أبتلعه قبل أن تغادري.
– سأطلب ذلك من الممرّضات.
– لا، لا، إيّاكِ! لا أريد الكومبوت المقيت الذي يعدّونه. ثمّة مقهى في بهو المستشفى اسمه «روليه أش». أحضري لي شطيرة لحم الخنزير والزبدة أو الخبز السويديّ بسمك السلمون.
– ما رأيك بكأسٍ من البيرة أيضاً؟ أذكّرك بأنّ الملح مضرّ للقلب.
– افعلي ما أطلبه منكِ، رجاءً. سيسعدني ذلك أكثر من عزفكِ لمقطوعة شوبرت.
تردّدت لويز، ثمّ قالت:
– هل تبقي عينيك على آلتي؟
أومأ برأسه إيجاباً.
– لا تقلقي.
* فصل من رواية «أنجيليك» للفرنسي غيوم ميسو صدرت أخيراً ترجمتها العربية عن «نوفل ــــ هاشيت أنطوان»