يقول الروائي التشيكي-الفرنسي ميلان كونديرا (1929-2023) في روايته «كتاب الضحك والنسيان»: «ما من شعورٍ أثقل من التعاطف، فكلّ ما قد يختبره الإنسان من ألم لا يضاهي ثقل الألم الذي يشعر به مع غيره ولغيره. هو ألمٌ يُكثّفه الخيال، فيُضخم صداه مئة مرة». إنّ مشاركة الآخر معاناته، بحسب كونديرا، أثقل من تحمّل الآلام الشخصية، إذ يتخطى ذلك الوقع الفعليّ أو الثقل المعنوي لهذه الهموم، ليشمل ثقل ما يُكنّه المُتعاطِف من أحاسيس وما يحمله من مخزون ذكريات تخصّ الآخر محطّ التعاطف، ناهيك بالمُخيّلة التي تزداد خصوبةً كلما ابتعد الإنسان عن دائرة الأحداث، فتغدو كل الاحتمالات ممكنة، والمستحيل بديهيّ التحقق، يصطدم رجعه بثنايا الذاكرة، فيتضخّم ويتضخم في عمليةٍ تزداد اتقاداً مع مرور الزمن.

هل قلنا الزمن؟! الزمن الذي اختلف على تعريفه وتوصيف ماهيته كثيرون، إلى أن استحال عنصراً محسوساً مكسوّاً بلحمٍ وجلد في رواية مازن حيدر الجديدة «الرجاء استبدال الأكاليل» (دار الآداب – 2023). روايةٌ لا تنقصها الشخصيات، الرئيسية أو الثانوية، الحقيقية أو وليدة الصندوق الأسود للذاكرة التي قد تبدو للوهلة الأولى هائمةً تائهةً بين الأزمان. بيد أنّ الزمن نجح في إزاحة كلٍّ من هذه الشخصيات ليبرز وحده بطل الرواية. أما الشخصيات، فقدمت عرضاً لمهاراتها في الانتقال عالي اللياقة بين المفاصل الزمنية المختلفة للرواية، عام 1975، خريف عام 1982، شتاء عام 1985، وعام 1992. قد تُجمِع القراءات على أنّ أحداث هذه الرواية تدور عام 1985، يوم السابع من كانون الأول (ديسمبر) على وجه التحديد، يوم استقلّ فريد وزوجته أمينة نعمة سيارة الأجرة متوجهين من حي بيضون في بيروت الشرقية، الذي بات مكان إقامتهم منذ نزوحهم من بلدتهم في الجبل قبل ثلاثة أعوام، متجهين نحو عين الرمانة، حيث منزل ومَشغل المعلّم برجيس، منقذ أشرطة الكاسيت المُحنّك، والمقاتل السابق الذي غدا بدل الضحية ضحيتان: ضحية الرهانات الخاطئة والآمال الخائبة، وضحية أذية حربٍ أفقدته قدرته على المشي السليم، فأنهت مشواره «النضاليّ» بين عشيّةٍ وضحاها.
سيأتمن فريد وأمينة المعلم برجيس على ما تبقى لهما من جلسات الأيام الخوالي في منزلهما في الجبل. كتُحفةٍ نادرةٍ احتفظ فريد وأمينة بتسجيلٍ صوتيٍّ التقط أحاديث الأقارب والأصدقاء والجيران، حفظ ضحكاتهم، ضجتهم، وأصوات لعب أطفالهم. هي محض عباراتٍ قد تبدو غير مترابطةٍ ومجرّدةً من المعنى والدلالات، إلا أنها باتت كل ما تبقى من أثرٍ محسوس لزمن العزّ لكلٍّ من فريد وأمينة. كيف لا وهما الستينيان اللذان خسرا كلّ شيء: بيتهما، أثاثهما، وحديقتهما الجذابة للغريب قبل القريب. فرّقت أيام الحرب الحاضرين في تلك الجلسة. رحلوا في خِضمّ المعارك، فمنهم من رحل عن البلدة، ومنهم من رحل عن البلد المقتتل برمته، وآخرون ترجّلوا راحلين عن هذه الحياة.
كان هذا الشريط، مع بعض ألبومات الصور، كلّ ما تبقى لفريد وأمينة. تهالك الشريط كما أصحابه. لعله تكرار استعادة محتوياته من ذكريات، أو أنه الزمن فقط. لكنهما مع ذلك بقيا يعزيان نفسيهما بأنهما بألف خير مقارنة بما ناب غيرهما من مصائر. نحتت سنوات الحرب شخصيتَي فريد وأمينة، مضافاً إليها التهجير والخسارات وألم الفقدان، فتبنّيا طباعاً وعادات قد تبدو للناظر من بعيد غريبةً بعض الشيء، لكن ذلك مبررٌ حتماً. إذ لم تبخل علينا الرواية في تسليط الضوء على الدوافع والمبررات لكلٍّ من شخصياتها. هي دوماً مُحقة إن آثرنا النظر إلى أفعالها ومبرراتها معزولةً عن سياقها، متعامين عن اللوحة الكاملة. وليست حال فريد وأمينة استثناءً، فلن يدري أيٌّ منهما أن الحفاظ على ما تبقى لهما من ذكريات، لن يكلّفهما ما كانا يحملانه من نقودٍ يومها فقط، بل ستكون كلفته باهظةً بما يتخطى ذلك بأشواط.
لكنّ قراءةً مختلفةً للرواية قد تتباين عن سابقاتها لناحية مسرح الأحداث وزمانها. في حين أنّ حرباً كانت تُخاض بين عامَي 1975 و1990، حربٌ كانت لها مفاصل كثيرة، تبدّل فيها المتخاصمون والمتحالفون، أما غير المنخرطين في ساحاتها، فكانوا محض بيادق تتقاذفها الأرجل، تبحث عن سقفٍ وجدران تؤويها من نيرانٍ عدوّةٍ وأخرى صديقة، إلا أنّ الحرب الحقيقية ابتدأت حيث انتهى اقتتال الـ 15 عاماً. هي الحرب مع الهزات الارتدادية، المعنوية والنفسية، بتأثير السنوات الخمس عشرة وما أسس لها، فكان لها حطباً، ثم أوقد نارها.
إن مسرح الأحداث في قراءةٍ مختلفةٍ للرواية هو حرب شوقي، ابن شقيقة أمينة الصغرى الذي فقد والدته في سنّ العاشرة وهي تضع شقيقه الأصغر، فكانت أمينة بمثابة والدته. أخذت على عاتقها مع زوجها تعويضه عن حنانٍ فقده، تماماً كما عوضهما هو عما بخلت عليهما به الحياة، عن الأبناء. شوقي، الأربعينيّ الذي خطّ دربه في فرنسا بعيداً من الحرب المستعرة، عاد أدراجه عام 1992 تاركاً زوجته وطفلتيه، في التزامٍ معنويٍّ تجاه خالته وزوجها.
للحرب التي يخوضها شوقي أوجهٌ مختلفة، تتأتّى بأشكالٍ متباينة. هي محاولاته الحثيثة للإمساك بطرف خيطٍ يُدنيه من الحقيقة، علّه يقع على سرديّةٍ مُقنعة وإجاباتٍ عن تساؤلاته التي لا تهمد. هي دأبُه الذي استحوذ عليه لجمع قطعٍ متناثرة يملأ بها فراغات اللوحة التي قد ترسم معالم ما حصل في ذلك اليوم الكانوني من عام 1985 في محيط منزل ومَشغل المعلّم برجيس في عين الرمانة. هي حربه مع النزعة المستجدة لأهل بلده لطيّ صفحات الماضي، بل إغلاق كتاب التاريخ إلى الأبد. لكن لم تحن هذه اللحظة بالنسبة لشوقي بعد، فكيف له أن يصفح وينسى والحقيقة ما زالت مبتورة، وما زال في جعبته الكثير من الأسئلة التي تنتظر الأجوبة كي ينعم بهدأة بالٍ جافته منذ سبع سنواتٍ على الأقل؟ إن كان الخصم أو «الآخر» واضحاً ومعلوماً لكلٍّ من أطراف الحرب على مدى عقدٍ ونصف العقد من الزمن، فإنه لم يتجرد بعد من صفته الطيفية في ذهن شوقي. قد يكون أيَّ شخص وكلَّ شخص، ما سيجعل المحاولات المفتعلة لنسج علاقاتٍ سليمةٍ مع المحيط، أمراً غايةً في الصعوبة.
تفاصيل مرحلةٍ أليمةٍ من التاريخ اللبناني


وفي حين تبقى الحقيقة منقوصةً غير مكتملةٍ لدى أيٍّ من شخصيات الرواية، فإن الراوي العارف والممسك بمفاصل الحكاية في «الرجاء استبدال الأكاليل» ليس سوى مازن حيدر، وهو المتمكّن من خصوصية مجتمعه وبيئته من دون أن يُغفل توظيف خبرته كاختصاصيٍّ في التراث المعماري، في محاولةٍ ليجعل من روايته وثيقةً تحفظ الهوية المعمارية لبيئة روايته والتحولات الطارئة عليها عبر منعطفاتها الزمنية. لم تنقصه أدوات الروائي، لعلّ أبرزها بساطة السرد التي لم تطغ على متانة السبك وتطويع الحوارات انسجاماً مع خلفيات شخصيات القصة المختلفة، فضلاً عن الليونة في التناوب والانتقال بين حاضر الشخصيات وأسلوب الخطف خلفاً.
«الرجاء استبدال الأكاليل» روايةٌ جديدة تحفظ بين صفحاتها تفاصيل مرحلةٍ أليمةٍ من التاريخ اللبناني، أهداها مازن حيدر «إلى من لفظته أرضه مرة، مرتين.. أو أكثر». وما أكثرهم بيننا، وما أكثرهم اليوم مقارنةً بأيّ وقتٍ مضى. إنّ ضحايا الحرب ليسوا بالضرورة من فقدوا حياتهم في خضمّها فقط، ولا ضحاياها من الأحياء الذين تركت نيرانها آثاراً جسديةً ستلازمهم ما بقي فيهم نَفَس. إنّ ضحايا الحرب الحقيقيين هم الناجون ممن سقطوا ضحايا ماضيهم وحاضرهم اللذَين سيستحوذان على مستقبلهم. أولئك تبدأ معركتهم الحقيقية حين تحطّ الحرب أوزارها وتخمد نيرانها. وكما أنّ حرباً جديدةً، بل حروباً جديدةً، بدأت مع إعلان انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، فإن «الرجاء استبدال الأكاليل» روايةٌ بدأت أحداثها حيث انتهت سطورها.