تظلّ علاقة الحاكم بالمحكومين إحدى الظواهر العصية على الفهم، فهي تارة قائمة على الندية وعلى فكرة أنّ الحاكم ليس سوى موظف اختاره الشعب ليخدمه، كما هي الحال في الدول الديموقراطية، وطوراً تقوم العلاقة على الخوف الذي يبثّه الحاكم في نفوس المحكومين، مستعيناً بكلّ عناصر القوة في يده كما هي الحال في الدول غير الديموقراطية.مرّت مصر في نهاية القرن الثامن عشر وحتى عام 2011، بالمرحلتين وتقلبت بينهما كثيراً. هذا ما يورده كتاب «صحوة المحكومين في مصر الحديثة... من رعايا إلى مواطنين 1798- 2011» (دار الشروق ـــ القاهرة) للكاتب محمود حسين، وهو الاسم المستعار للكاتبين المصريين بهجت النادي وعادل رفعت اللذين يكتبان بالفرنسية. يتكوّن الكتاب (ترجمه إلى العربية محمد مدكور) من ستة فصول، يصف جزؤه الأول طبقات الشعب المصري وتكويناته التي سادت في نهاية القرن الثامن عشر، حين كان الشعب يعيش تلقائياً وعفوياً رغم الانعدام التام للمساواة بين طبقتي الحاكم والمحكومين، فالحكّام أتراك لا يعرفون المحكومين من عموم المصريين، والحدود بينهما كبيرة جداً.


لكن الكاتب يرى أنّ مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798، غيّر في طبيعة المحكومين كثيراً. هؤلاء قاوموا جيوش نابليون بونابرت في ما عرف بانتفاضتَي «القاهرة الأولى» و«الثانية»، بعدما وجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع الفرنسيين الذين اعتبرهم المصريون «كفّاراً»، إذ كان المصريون وقتها يعتبرون الحاكم رسولاً من الله تجب طاعته، وهو أيضاً حلقة الوصل بينهم وبين الإله. لذا، اعتبروا أنّ مجيء الحملة الفرنسية وهزيمتها للمماليك «لعنة سمح الله بها لمدة وجيزة، ليختبر عبرها إيمان المسلمين وقدرتهم على التحمل».
هنا يورد الكتاب في أكثر من باب داخل فصليه الأول والثاني، كيف كانت الحملة الفرنسية سبباً في تمزّق العقيدة لدى أهل مصر. كان المصريون يعتقدون أنّ طاعة الحاكم من طاعة الإله الذي كانت مشيئته أن يأتي بهذا الشخص- أي الحاكم- في هذا المنصب وعليهم تنفيذ تعليماته. وفقاً للمؤلف، أسهمت في هذه الأفكار العقائدية عن العلاقة مع الحاكم، طبقةٌ من العلماء والمشايخ الذين أفادوا من علاقتهم بالحكّام بجني الأموال والمناصب، ومن علاقتهم بعامة الشعب الذي أعطاهم مكانة عالية. لكن الهزيمة الأولى للمماليك أمام جيوش نابليون بونابرت جعلت المصريين يشكّكون في فكرة قدوم الحاكم من عند الإله.
يوضح محمود حسين كيف شعر المحكومون في مصر ــ بعد خروج الحملة الفرنسية (1801) مهزومةً ــــ بأنّ لهم كلمتهم وحقّهم في معرفة واختيار من يحكمهم، وخصوصاً عندما اختارت طبقة العلماء والأعيان محمد علي والياً على مصر (1805- 1840)، وهو الحاكم الذي اهتم بالإصلاح الزراعي والصناعي، ما أدى إلى تغيّر كبير في الطبقات الاجتماعية مختلف عما كان سائداً قبل وصول الحملة الفرنسية. ولدت فكرة الحاكم الزعيم في مصر خلال ثورة أحمد عرابي عام 1882، لكنها تبلورت بالفعل مع سعد زغلول في ثورة 1919. يقول الكاتب إنّ «شرعية سعد زغلول مختلفة تماماً، لم تصبح واقعاً إلا عبر الدعم الذي منحه إياه الشعب». أبرزت هذه الفترة بشكل أكبر، قوّة المحكومين في التحول من رعايا ـــ كما عاشوا قبل الحملة الفرنسية ــــ إلى مواطنين يشاركون في إدارة شؤون بلادهم.
ما حدث في عام 1919 كان بداية طريق المحكوم المصري إلى الديموقراطية. فكرة توطّدت مع دستور 1923 الذي شاركت الأغلبية البرلمانية من «حزب الوفد» -الممثّلة للشعب وقتها- في صياغته. تعالى هذا الشعور بتحوّل «حزب الوفد» إلى شريك في السلطة وزادت ثقة المحكومين في أنفسهم، بما أنهم هم الذين جمعوا التوقيعات من أجل سعد زغلول، وضغطوا بشدة لإعادته من المنفى، حتى تحوّله إلى بطل شعبي مصري عند وفاته عام 1927.
في الباب الخامس من الكتاب، يعتبر محمود حسين أنّ الضباط الأحرار ظلّوا لمدة عامين بعد 23 تموز (يوليو) 1952 متأرجحين بين «الميل الليبرالي الديموقراطي» و«الميل السلطوي الفردي» لينتصر أصحاب الاقتراح الثاني في «أول إشارة سياسية تصدر عن مجلس قيادة الثورة» عند القضاء على إضراب عمّال مدينة كفر الدور. كانت الإشارة هنا إلى المحكومين ببداية عصر الهيمنة التامة على مفاصل الدولة. فعل جمال عبد الناصر ذلك بكل أريحية أثناء سنوات حكمه بتوجيه ضربات إلى الإقطاعيين، ثم إلى جماعة الإخوان المسلمين بعد محاولتها اغتياله، وصولاً إلى الوصاية المباشرة على وزارة الأوقاف ومشيخة الأزهر. يرى محمود حسين أنّ تلك الفترة من السيطرة والحكم الأبوي، استمرت حتى هزيمة مصر في عام 1967. لكن خروج الشعب إلى الشوارع لرفض تنحّي عبد الناصر، ساعد في أن «يصبح المحكومون، في غمضة عين، شعباً من جديد، ويستعيدوا استقلاليتهم التي ولدت في عام 1919».
ما حدث في عام 1919 كان بداية طريق المحكوم المصري إلى الديموقراطية


أما فترة السادات (1970-1981)، فقد أعادت النزعة اللاهوتية إلى المحكومين/ شعب مصر بعد تشجيعه للتديّن الشعبي والجماعات الإسلامية، والابتعاد في الوقت نفسه عن النزعة العلمانية والأبعاد العربية لمصر والتضامن مع دول العالم الثالث. وزادت في فترة مبارك (1981-2011) فكرة الحكم الفردي الأبوي. وإذا كان السادات استند إلى الانفتاح الاقتصادي، فقد اعتمد مبارك على طبقة من أصحاب المليارديرات نظراً إلى كثرة ديون الدولة في بداية حكمه وعدم قدرته على سدادها، حتى أنقذته حرب الخليج الثانية ومشاركته فيها مقابل إسقاط جزء كبير من الديون.
ما حدث في عصر مبارك من زيادة لدور الأمن في الحياة السياسية وإفقار للطبقات الوسطى وما دونها، أظهر بؤر الإضرابات التي بلغت ذروتها عام 2010 بعد انتخابات برلمانية مزورة. استيقظ المحكومون في مصر تماماً في 25 كانون الثاني (يناير) 2011 لإنهاء «عصر الحكم المقدس»، وهو الجزء الأخير من كتاب محمود حسين عن العلاقة بين الحاكم والمحكومين في مصر، الذي يقارن فيه بين حزيران (يونيو) 1967 حين أعاد الشعب جمال عبد الناصر إلى الحكم، وشباط (فبراير) 2011 حين استطاع الشعب إسقاط حسني مبارك، ليتخلص المصريون من الطاعة الشخصية للحاكم... طاعة «لطالما أعمت بصيرتهم، وحجبت رؤيتهم المستقلة للواقع». يخلص الكتاب إلى أنّ أهل التحرير في عام 2011 «أفسحوا للشعب المصري أفقاً تاريخياً جديداً»، لكن هل لا يزال هذا الأفق موجوداً في عام 2024؟