تحت عنوان «فرنسا قوّة عظمى خَذَلَها العصر» (ترجمة نصير مروة) أصدرت «مؤسسة الفكر العربي» في بيروت كتاباً أشرف على إعداده الفرنسيّان الأكاديمي برتران بادي والمؤرخ دومينيك فيدال. شارك ثلاثة وثلاثون باحثاً وأكاديمياً وسياسياً ومؤرخاً فرنسيون في مقالات تناولت تقييم «السياسة الخارجية الفرنسية» التي «لم تحظَ إلّا بالقليل من الدراسة، ويُنظر إليها عبر أفكار مسبقة لم تخضع للتقييم: مثل فكرة العظمة الديغوليّة، وظيفة الترسانة النووية في زمن ما بعد القطبيّة المُلغّز، أو مواقع نفوذ وبسيادويّة بلاغيّة أرهقتها العولمة ونالت منها». تتميّز المقالات/ الدراسات الواردة بالتنوّع تبعاً لاختصاص كتّابها، ما أثرى المعلومات، وطرق المعالجة لهذه السياسة الخارجية التي يؤديها «جهاز ديبلوماسي مرموق وذائع الصيت، ولكن لمّا تُحسن الإفادة منه» (ص21). يبلغ عدد موظّفي هذا الجهاز 12105، أُقرّت له موازنة في عام 2020 أكثر من خمسة مليارات يورو مع إضافات، أي في عهد الرئيس ماكرون الذي «جرى تلقّيه بترحاب من الجسم الديبلوماسي، إذ وقّع ستّون سفيراً نداءً انتخابيّاً لمصلحته، سرعان ما خيّب الآمال في هذا المجال» (ص155).


تحت عنوان «ديبلوماسية إيمانويل ماكرون: سلطة بلا حسيب ولا رقيب»، وَصَف رينيه باكمان المتخصص في السياسة الدولية «إستراتيجية ماكرون الديبلوماسية» بأنها الأقرب إلى أن تكون الخاصيّة التي يختصّ بها، وليس امتلاك الرؤية الإستراتيجية، عازياً الأمر إلى «عثرات منهجه وإفراطات تواصله أو رعوناتها، ثمّ بخاصّة، تركيز اتخاذ المبادرات والقرارات الديبلوماسية في القصر الرئاسي». وهنا ننصح أيضاً بقراءة كتاب «إيمانويل ماكرون من الظل إلى الرئاسة» (دار الساقي) للكاتبة آن فولدا التي تتوقّف عند شخصية ماكرون بمراحلها كلها ونرجسيته، وتشبيه حاخام فرنسا الأكبر حاييم كورسيا للشاب ماكرون بنابوليون بونابارت، والمساندين والداعمين لوصوله من رجال الأعمال والمصارف وأبرزهم روتشيلد.
إلامَ أدّت تلك السياسة الماكرونية خارجياً؟ هنا يشير باكمان، كما في عدد من مقالات الكتاب، إلى فشل سياساته في لبنان «مُتّخذاً وضعية المنقذ لبلد يسير على غير هدى» (ربما الاستفادة التي نلناها من زيارته كمواطنين كانت صورة السيدة فيروز)، وفي الملف النووي الإيراني عندما طالب بتوسيع الاتفاق «ليشمل مسائل الصواريخ المسيّرة (الباليستية) ودور إيران في سوريا ولبنان، وهي مسائل لا يريد القادة الإيرانيون أن تُلامس أسماعهم»، أو منهجه في الساحل الأفريقي، أو في ليبيا. ويبقى موقفه من «الصراع الإسرائيلي –الفلسطيني» بالانحياز لجانب إسرائيل عندما أيّد صفقة القرن «التي تصفّي الحقوق الوطنية الفلسطينية». وهو ما يصفه الصحافي المؤرخ دومينيك فيدال في مقالته بعنوان «فرنسا/ إسرائيل: قانون التأرجح» بأنّ «إيمانويل ماكرون أكثر اهتماماً بالصهيونية منه بالشرق الأوسط» (ص295).
يسأل برتران بادي في مقالته: «عن أي قوة وأي جبروت نتكلم؟ لا تتوقّف فرنسا عن التذكير عبر ألسنة قادتها بأنها واحدةٌ من القوى العظمى، غير أنّ الأمور بدأت تشتبه وتلتبس اعتباراً من هزيمة عام 1940 لأنها لم تكن هزيمة كسائر الهزائم، لأنها أفضت حينها إلى الخضوع التام للمُحتل وإلى التعاون معه تعاوناً لا يتّفق مع السردية الموروثة» (ص11). ويعدّد هزائم فرنسا في الهند الصينية، وفي الجزائر، وفي مشاركتها في عدوان عام 1956 على مصر، والمنهج الفرنسي إبّان الحرب الباردة كوسيط، ولكنّ «زوال القطبية الثنائية كَسَرَ بوصلة السياسة الفرنسية»، فابتعدت عن «المعجزة الديغولية» في سياسة ديغول الأطلسية، إذ التحق شيراك بتأييد عدوان أميركا على العراق، وفي لبنان وافقَ المحافظين الجدد الأميركيين في القرار 1559، وأيضاً في «إحياء فكرة الغرب والتضامن الغربي في مواجهة الإسلاموية».
يتضمّن فصل «من أين تأتَّت ثقافة العلاقات الدولية الديبلوماسية» مقالات عدة منها حول «ثقافة الجبروت الفرنسية»، فيسأل المؤرخ في العلاقات الدولية روبير فرانك كيف بنى الفرنسيون ثقافة جبروتهم؟ وكيف تطورت؟ وهل ظلّت هي هي بعد عام 1945، أي عندما فقدت فرنسا منزلتها كجبّار أو كقوة عظمى؟ يجيب بأنّ السفن تجري بما لا تشتهي فرنسا، في حين يقول المؤرخ المتخصّص في التاريخ الاستعماري آلان روسيو إنّ «الروح الاستعمارية لم تَمُت».
تقف اليوم عند منعطف مماثل لما شهدته بعد أزمة السويس عام 1956

مع ذلك، يكتب موريس فايس المختصّ في السياسة الخارجية والعسكرية عن «أوراق رابحة ونقاط ضعف في عالم معولم»، وعن «طموح ديبلوماسي جامع يغطّي المعمورة ووسائل محدودة». ويختم مقالته: «في سياق عولمة كبحها الوباء (كوفيد) ولكنه لم يوقفها، ومواجهة بين الصين والولايات المتحدة الأميركية ووسط أوروبي لا يزال يبحث عن سواء سبيله، تجد فرنسا نفسها كما بعد أزمة السويس عام 1956 على منعطف» (ص150).
أما الفصل الثاني من الكتاب، فيتناول أدوات السياسة الخارجية الفرنسية، ومن أبرزها أدوار الجيش، ومبيعات الأسلحة حيث تحتل فرنسا المرتبة الثالثة في المبيع بعد الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، والصعود الصاعق لليبراليين الجدد من النمط الفرنسي، ودور الشركات المتعددة الجنسيات، واللوبيات والوسطاء كديبلوماسية موازية، والاستخبارات كأداة في هذه السياسة الخارجية، إضافة إلى الدور الثقافي والفرنكوفونية إلخ. يمرّ النائب الأوروبي السابق ورئيس «اليسار الوحدوي الأوروبي» فرنسيس فورتز على عهود رؤساء فرنسيين، ليصف أخيراً سياسة ماكرون بأنها «خطابات لامعة ونتائج مائعة».