وَفَدَ فيلسوفٌ مدينةً بها فيلسوف، فقدّم فيلسوفُ المدينة إلى الفيلسوفِ القادم كأساً ملأى بالماء، دلالةً على أنّ حكمته وعلمه يكفيان هذه المدينة، وليست بحاجةٍ إلى هذا الوافد الجديد، فما كان من الآخر إلا أن وضع في الكأس إبرةً ليخبره بأن كل كأس مهما كانت ممتلئة، بحاجة إلى إبرة الحكمة التي تبدّد فيضان غروره، فتعطيه ظِلاً ينفذ في ظِل، وسِعَةً مُضافةً إلى سِعة. إن إبرة الحكمة أو كما تسمّيها باسمة القصّاب «إبرة اللَّحظ» هي ما قامت باختزاله في النص المُهدى على نسختي الخاصة من كتابها الجديد («إبرة أبو حيّان» ــ مؤسسة الانتشار العربي) فكتبت إليّ يومها: «وحدها إبرة الحكمة تُبدّد وهم امتلاء كؤوسنا»، أي إنّ الحكمة تبدأ من الحيثية التي يدرك فيها الإنسان جهله، فيتخلى عن صفاته المذمومة من الكِبر والغرور، ليتحلّى بالصفات الحميدة التي يتطلبها التواضع الفكري القادر على استقبال المعرفة ودهشة العالم من جديد.


من هذه الحكاية التي يحكيها الفيلسوف المسلم أبو حيان التوحيدي (310 - 414 هـ)، تستلهم الكاتبة البحرينية عنوان كتابها «إبرة أبو حيّان». تقرأ فيه نصوصاً من كتاب «الإمتاع والمؤانسة» الذي سرد فيه أبو حيّان مجموع منادماته الفكرية طوال الليالي السبع والثلاثين التي قضاها مع الوزير أبي عبدالله العارض، ومُعرِّفاً ما دار بينهما من مسائل إلى صديقه أبي الوفاء المهندس كليالي أُنس وإمتاع تحوي من الاختلاف والإدهاش ما لا تحويه ليالي أُنس قصور الوزراء والساسة الآخرين.
قليلة هي الكتب التي تتحدث عن كتب أخرى، فتشعر بأنّ كاتبها مستوعبٌ وعلى مسافة واحدة مما قرأ. تستفتح باسمة القصاب كتابها بهذا السؤال: «ما الذي يدفعنا إلى مصادقة نص تراثي بيننا وبينه من الاختلاف والمسافة الزمنية قرون طويلة؟». ثم تجيب على ذلك بأنّ «الأصل في الصداقة المُشاكلَة»، أي أن تكون على شاكلة صديقك. فنحن لا نستطيع أن نجالس نصاً تراثياً، إلا إذا كان بيننا وبينه صداقة، التي هي في الأصل مُشاكلة. ليست المشاكلة هنا مشاكلةَ شكل لشكل، ولا مُشاكلةً مع أدوات التوحيدي أو لغته المعقدة، إنما مُشاكلة للتساؤلات والإرادات والغايات والمواضيع التي يتضمّنها نص التوحيدي وهي نفسها تساؤلات ومواضيع هذا العصر التي شاكلت إرادة الكاتبة فيها إرادة التوحيدي وغاياته.
تقع باسمة القصاب في صداقة مع نص أبي حيان من هذه الناحية، لأن صداقتها معه كما تقول: «ليست خلاف الضد للضد، بل الشكل للشكل»، مستعينة بجواب أبي سليمان السجستاني عندما سأله تلميذه التوحيدي عن صداقته مع ابن سيار القاضي: «كيف تصحّ الصداقة بين رجل حِكمة ورجل حُكم؟» أي بين رجل يبحث عن الحكمة من الأشياء وكيفية فهمها، ورجل يحكم على الأشياء ويقاضيها؟ فكان جواب أبي سليمان بأن خلافه مع ابن سيار ليس «خلاف الضد للضد، لكنه خلاف الشكل للشكل».
تتحدث باسمة القصاب مستعينة بنصوص التوحيدي في «الإمتاع والمؤانسة» عن ماهية الكتاب في الوقت الذي تتحدث عن ماهية الصداقة، وعن ماهية الكتابة في الوقت الذي تتحدث عن ماهية الطبيعة، إذ تقول بأن المعايير الجمالية للنص هي نفسها المعايير الجمالية للطبيعة، وما من طبيعة مثالية على الطريقة الأفلاطونية بل مجموع متضادات حائرة.
أن يكتب الإنسان على طبيعته، يعني أن يكون له ظله الخاص. تستخدم الكاتبة مجاز الظل للتوحيدي كثيراً في التعبير عن أمور متعددة، حيث يقول: «الإضافة ظِل، والشخص بالظل يأتلف وبالظل يختلف». إننا لا نكتب إلا لكي نضيف شيئاً، وأن نتفرّد في الكتابة يعني أن نمدّ ظلالنا فيها، فما الذي يستفيد منه الآخرون من كتابة تستنسخ ظلال الآخرين، وتختتم مقالها بـ: «قال فلان، وعرَّفَ فلان، وحسب رأي فلان». فعلى الإنسان حين يكتب أن يضيف ظله -تجربته- إلى ظلال الآخرين، لأنه لا يُبدع إلا بالتضايف.
إذن، الطبيعة عند التوحيدي هي مجموع إضافات ومتضادات حائرة، لا تخضع لمعيار واحد ولا شكل واحد ولا نموذج واحد، ولا جمال واحد. هكذا جاء كتاب باسمة متّسقاً مع فلسفة التوحيدي، فيُدخلك في الصداقة من حيث يدخلك في الكتاب، ويدخلك في الطبيعة من حيث يدخلك في الإنسان: «الإنسان هو الشيء المنظوم بتدبير الطبيعة»، «الطبيعة أم والإنسان ابنها». ويدخلك في الكتابة من حيث يدخلك في الله: «فكما أن الله يؤلف بالخَلق كذلك الإنسان يؤلف بالكتابة» (ص35). ذكرتني هذه المقولة التي تذكرها باسمة عن التوحيدي بحديث مأثور مضمونه أن الله كان كنزاً مخفياً، فأحبّ أن يُعرف فخلق الخلق، فَبِهِ يعرفونه. هكذا كانت دواعي الخلق الإلهي للممكنات، وهي ذاتها الدواعي التي تدعو الإنسان لأن يكتب، أن يُخرجَ أفكاره من الذهن للوجود محبةً في أن يُعرَف، ومحبة في الناس أن يعرفوا ما عرف. فهو يُؤلف بالكتابة عوالمَ -عوالمه الخاصّة- كما يؤلف الله بالخلق عوالم وأبداناً. إن الفلسفة هي حب الحكمة كما يقولون، «وتُعرف على أنها التشبّه بالإله على قدر الطاقة» (ص139).
إذا ما اتفق التوحيدي مع الوزير أبي عبدالله وحاول أن يبين أو يشرح له تساؤلاً ما، فإنه كثيراً ما يستخدم الحكاية دوناً عن أساليب المنطق والفلسفة لأنّ «لا حقيقة أنصع من الواقع» (ص71). وحكايات التوحيدي هنا عبارة عن سرد لوقائع، أو أمور حدثت يعجز العقل عن الاستدلال والبرهنة عليها بأساليب المنطق والتفلسف، فيلجأ فيلسوفنا للحكاية، كإجابته مثلاً عن تساؤل الوزير عن حدوث الاتفاق، الذي نسميه اليوم «الصُّدفة»، أي حدوث شيئين في وقت واحد من دون قصد أو ترتيب. كأن تتحدث عن اشتياقك لأحدهم فتجده يطرق باب منزلك، أو أن يجيء طفلٌ إلى الحياة في اليوم الذي يرحل والده. يجيب التوحيدي عن الحكاية بالحكاية، فلا يسرد حكايات من خياله، بل أشياء حدثت في الواقع، فالحكاية، وإن كانت واقعية، إلا أنها لا تستبدل الدهشة بالمنطق، إنما تجيب على دهشة السؤال بدهشة سرد الوقائع العجائبيّة والغرائبيّة. أما حين يختلف مع الوزير، فإنّه يمهّد بذكاء أرض عقله بالكلام الليّن، ثم يجيء له بالجملة الخشناء، كما حدث عند امتعاض الوزير من تنقير العامة وإزعاجهم للخاصّة والتدخل في شؤون الحكم مُضمراً التوعد بعقابهم، يقول أبي عبدالله العارض: «إني لأهمّ في الوقت بقطع ألسنةٍ وأيدٍ وأرجل وتنكيل شديد، لعل ذلك يطرح الهيبة ويحسم المادة» (ص87)، فيجيبه التوحيدي أوَّلاً بالرفع من شأنه كسائس للناس عامّتهم وخاصتهم وضعيفهم وقويهم وغنيهم وفقيرهم، وأنّ من يعطيه الله هذه المكانة حرياً أن يكون عقله فوق عقلهم، وحلمه أفضل من حلمهم فلا ينزعج منهم.
هكذا منطلقاً من التصنيف السائد للعامة والخاصة، يبدأ التوحيدي خطابه للوزير، ثم يجيء بـ «الجملة الخشناء»، بمفهومه الخاص الذي يميّز العامة عن الخاصّة ليس بالطبقة التي ينتمي إليها المرء من ثقافة أو رئاسة سياسية، بل هو يقول في أهل الأسواق الذين هم العامة أو «السّوقة»: «إننا لا نعدم منهم خُلقاً دقيقاً، وديناً رقيقاً، وحرصاً مسرفاً، وأدباً مختلفاً، ودناءة معلومة، ومروءة معدومة» (ص106).
الكتاب متشعّب إلى مواضيع متعددة من الصداقة إلى الله والإنسان

هكذا يقلب التوحيدي مفاهيم الوزير والمنظور السائد آنذاك عن معيار الخاصّة والعامة بأنه معيار خُلق وأدب ومروءة؛ فكما يوجد نقص وزيادة في معاييره هذه عند أهل الحكم والعلم والثقافة، يوجد أيضاً ذات النقص والزيادة عند العامّة والسّوقة؛ فما الضّير في أن يتدخل هؤلاء ويتساءلوا ويعترضوا على شؤون الحكم ما دامت تمسّ هذه الشؤون أمور دنياهم التي يسيرون فيها وأقواتهم التي يسعون إليها؟!
هكذا قدمت باسمة كتاب التوحيدي من حيث هو كثرة يتضمنها واحد. ذاتٌ لكنها متعددة، أشبه بالكون في ذهن إله. صحيح أنّ الكتاب متشعّب إلى مواضيع متعددة عن الصداقة، والكتابة والطبيعة، عن الله والإنسان، والرعية والراعي، والخاصة والعامة، وشؤم الكلام الذي يؤسّس له علماء الكلام في جعلهم طريقاً واحداً للحق وطرقاً متعددة للضَلال، وكلامهم الذي هو ككأسٍ ممتلئة لا تستقبل إلا ما بها من ماء، مقابل مفاتيح الحكمة وإبرة الفلاسفة التي يفتح بها التوحيدي مغاليق الوزير أبي عبدالله العارض في سبعٍ وثلاثين ليلة، إلا أنه رغم هذا الاختلاف في الكتاب وتعدد مواضيعه، فهو متسقٌ ومتوحد في ذات واحدة هي ذات وعقل فيلسوفنا أبي حيان التوحيدي وكتابه «الإمتاع والمؤانسة».
«إبرة أبو حيان» أو «إبرة الحكمة» كما قدّمتها لنا باسمة القصّاب كانت بمثابة رحلة في كأسٍ لا تمتلئ، وطبيعة لا تُسبر أغوارها، لأن الإبرة هنا ليست إبرة إجابات تغلق، إنما إبرة مغاليق تُفتح، وأبواب تتيح لك الولوج إلى دهشة العالم المتعدد. إنها الإبرة التي تُبدد وهم امتلاء كؤوسنا.

* كاتب من البحرين