أطرح أحياناً أسئلة عن الأعمال التي تيّمتُ بها عندما قرأتها في عمر المراهقة، ثم تبينت استمرار الإحساس بأهميتها عقب إعادة القراءة لاحقاً. من بين تلك الروايات على سبيل المثال تحضرني ثلاثية نجيب محفوظ و«الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي. تعدّ «الإخوة كارامازوف» بين الأعمال التأسيسية في الرواية الملحمية، في القرن التاسع عشر، تتناول وتتتبع مصائر أطراف عائلة روسية من الطبقة الوسطى وترصد مصائر أفرادها لعقود عدة، وهو تقريباً الطابع الذي ميّز ثلاثية محفوظ، التي تعد كذلك رواية تأسيسيةً في الرواية الملحمية العربية، تتبعت مصائر ثلاثة أجيال من الطبقة الوسطى الشعبية في مصر منذ بداية القرن الماضي وحتى منتصفه تقريباً.
باختصار مخل، فإن «الإخوة كارامازوف» تتناول سيرة فيودور كارامازوف: أب في منتصف الخمسينات، يوصف بأنه شخصية ساخرة، متطفّل وسكير. وتتمحور الرواية حول علاقته بأبنائه الثلاثة ديمتري وإيفان وأليكسي وابنه غير الشرعي بافل. وهم جميعاً يعانون من عدم اكتراثه أو اهتمامه بهم؛ ما يولّد مشاعر كراهية شديدة متبادلة بينه وبينهم من ناحية، وبينهم وبين بعض من ناحية أخرى.
أما الثلاثية، فتتناول سيرة السيد أحمد عبد الجواد صاحب الحياة المزدوجة بين رجل الفضيلة التاجر العصامي الناجح، المتمسّك بالقيم والأصول في النهار، والعابث بين أحضان الغواني ليلاً. كما ترصد علاقته السلطوية بزوجته أمينة السيدة التقليدية المستكينة، ثم بأبنائه ياسين (من زوجته الأولى) وفهمي وكمال وخديجة وعائشة.
وفي العملين شخص مركزي قد لا يبدو كذلك في بداية العمل، لكن مصيره وتطوره النفسي والفكري يحتل موقعاً بارزاً مع اطراد العمل وهما: أيفان في كارامازوف، وكمال عبد الجواد في الثلاثية.
سأكتشف مع الوقت أنّ أثر هذين العملين بقي في نفسي بسبب تأثير أفكار هاتين الشخصيتين الروائيتين بشكل خاص. فلكل منهما أسئلته عن معنى العالم، فإيفان كاتب وشاعر يعيش حياة نفسية مضطربة بسبب معاناته مع القدر، كثير التساؤل عن ماهية الحياة والقدر وما بعد الحياة، وعلاقته تقريباً سطحية مع إخوته.
أما كمال الابن الأصغر في الثلاثية، فهو كذلك يميل للقراءة والتفكير والكتابة لاحقاً، ويعاني من حساسيته الشديدة وعدم ثقته في نفسه، بينما يمتلئ رأسه بالتساؤلات عن تناقضات الأب ومعنى العالم والفرق بين الفضيلة والرذيلة. وعلى امتداد فصول كثيرة، يتابع القارئ أسئلة وجودية عن معنى الحياة وجدواها وحقيقة القيم الاجتماعية.
لكن ما كان مثيراً للفضول هو شخصية الأب في كلا العملين. شخصيتان متغطرستان تفرضان على المحيطين بهما تصوراً محدداً للحياة، بل إنّ السيد أحمد عبد الجواد يفرض تصوّره حتى عن شكل الحياة التي ينبغي أن يعيشها أبناؤه.
مع ذلك، فقد جاء الأخ الأكبر في كلا العملين (ديمتري في الأولى وياسين في الثانية) لكي يكونا سبباً في دق رأس هذه الغطرسة مرة بعد أخرى، بل يكادان أن يمرغاها في الوحل، وبلا أمل في التوقف.
وتقديري أن الشخصيتين تمثّلان نموذجين كاشفين لأزمة لا تخصهما فقط، بل تمتد لتشخيص أزمة تمثل قطاعاً واسعاً في عالم اليوم المعاصر.
بينما أتأمل اليوم أمثلة ونماذج لشخصيات تنادي بما يفترض أنّه الحق، وتبدو مثالية في مطالبها التي يفترض أن تأتي أيضاً دعماً للإنسانية المقهورة، ولكنها في هذا كله تبدو متغطرسة، كأنها لا تعي أن الغطرسة قيد ثقيل يفرضه الإنسان على ذاته بلا وعي، غطرسة بشرية في تأكيد قدرتنا على الوصول إلى اليقين والحقيقة الأبدية باستخدام العقل الذي يثبت باستمرار أنه ليس معصوماً أبداً من الخطأ. كأنها استعارة ليقين الكهنوت السلطوي الكنسي الشائع في العصور الوسطى إلى عالم اليوم بأقنعة جديدة. أو كما أشار عالم الاجتماع إيمانويل فالرشتاين: «وكنا باستمرار متغطرسين في محاولة بعضنا فرض تصوراتنا الذاتية لمجتمع مثالي على بعضنا الآخر، بشكل عنيف وقاس».
تعدّ «الإخوة كارامازوف» بين الأعمال التأسيسية في الرواية الملحمية في القرن التاسع عشر


وبالتالي خدعنا أنفسنا في المقام الأول وأوصدنا الباب على إمكاناتنا وعلى الخصال والتخيلات الممكنة التي ربما كانت عندنا ورعيناها، والمدارك المعرفية التي ربما حققناها، لأننا لم ندرك أننا نعيش في كون يتسم باللايقين.
هذا الإيمان في اللايقين كما قدمته الروايتان المذكورتان في الحقيقة، هو شرط تحقق العمل الروائي بالمعنى العميق لمفهوم الرواية، كما أفهمه على الأقل، وهو الفارق الذي ميّز بين روايات الوعظ المنفلوطية العتيقة، وبين الرواية الحديثة المعاصرة التي ارتبطت بالمدينة المعاصرة وابتغت تشريحها وفهمها، وهو أيضاً شرط من شروط استعادة البشرية سبل الوصول إلى حلول حقيقية لأزماتها الوجودية المعاصرة التي شوّهها الامتثال غير المشروط لليقين الواحد والتصور المثالي الوحيد، وأحياناً تحت شعارات براقة مثل الثورة والحرية.
دور الرواية في الحقيقة أن تتأمل، من بين ما تتأمله، غطرسة السلطة (بشكلها الأبوي)، لكن بشرط أن تكشف الغطرسة المقابلة في محاولات تصديها للسلطة الأبوية بسلوكات البنوة المراهقة التي تقارب أو تماثل الغطرسة، بينما لا يدرك الطرفان حقيقة المستنقع الذي يغرقان فيه معاً.
لذلك فظنّي أنّ قراءة روائية للواقع تخلق نموذجاً يماثل نيلسون مانديلا. أما القراءة الخطأ أو قراءة اليقين، فلا تنتج إلا مجموعات من مشاغبي مدرسة المشاغبين الثورية أو السياسية.
وفي الأدب أيضاً سوف نجد في غالب الأحيان أن الروايات التي نعيد قراءاتها مراراً وتكراراً، هي روايات منتبهة ومتبنية لهذه الديموقراطية الحقيقية في محاولة فهم العالم. ديموقراطية العمل الروائي وديموقراطية استيعابها وقراءتها، بينما اليقين لا ينتج إلا نصوصاً مباشرة رديئة، ونصوصاً تجيب عن أسئلة لم تطرح أساساً بدلاً من أن تطرح هي الأسئلة.

* كاتب مصري