صحيح أنّ ارتفاع القمر في ليالي الصيف القائظة لا يمكن أن يكون إلا منظراً مبهراً ومسليّاً بالنسبة إليّ وإلى أطفال الحيّ في بلدتنا، لكنه يراوغهم بحجمه المتغيّر حسب الفصول والزمن. يلهثون راكضين وراء ضوئه السّاطع وكأنّهم يريدون التقاطه بحركات أصابعهم الصغيرة، فيبعث فيهم شرارة الحلم لركوبه والجلوس فوقه أو الرحيل إليه كروّاد فضاء مثل يامازاكي ناوكو وفينكي، لاكتشاف ما وراء السماء في رحلة انزلاق بين الكواكب والمجرّات، ويراقبون النجوم والقمر بدهشة يُغلّفها الاعتقاد أنَّه كوكب مختلف ومُنقذ للبشرية في حال خذلتنا أمّنا الأرض وسئمت من الخراب والدّمار الشامل للبيئة والكائنات المقيمة فوق سطحها.بدا القمر ديناميكيّاً ونشيطاً وهو يلمع ويدور، ويوشك أن يقترب منّي وأنا أهزّ رأسي بين الفينة والأخرى وألوّح له بكلتا يديّ، لكنّه لا يهتم بي على الإطلاق، فأصرخ وأنظر باتجاهه ثم أغمض عينيّ حين أشعر بهياج وحساسيّة في أحداقي. ورغم المسافة البعيدة بيني وبينه، كان باستطاعتي أن أمدّ يدي من النافذة باتجاهه إلى حدود عجيبة تستلزم جهداً مضنياً. وقتئذ يمتدّ خيط متوهّج وناعم ينتهي باستدارة كاملة حول القمر فيصبح أكثر صفاءً عند منتصف الليل. لطالما نهرتني أمي بكلّ حزم، وأسدلت الستائر حتى لا أصاب بالعمى، فهي تعتقد أننا كلما أمعنّا النظر في القمر، نصبح مُعرّضين لخطر فقدان البصر، فلم تكن ترفع رأسها عن الأرض حين يحلّ المساء وتكون خارج البيت. وكنت أشعر بالأسى حين يتعذرّ عليّ رؤية النجوم في كبد السماء.
فكّرت أن أخبرها أنني أشبه «زهرة القمر» تلك النبتة ذات البتلات البيضاء الخلابة التي يزداد نشاطها بالليل حين يغطيها ضوء القمر الساطع، ما يجعلها مصدر بهجة دائمة. لكن أمّي لن تصدّق ذلك. فهي لم تستمتع قطّ بأمر كهذا من قبل، وربما ستشعر بالقلق وتحرمني من الاتّكاء على حاجز الشرفة أو ترك نافذتي مُشرّعة على الأفق الرحب. بقِيَت عينَاي مفتوحتين أمام المشهد الأخّاذ، وبدا لي القمر عملاقاً هذه الليلة، وربّما أكبر من حجمه الاعتيادي، وعندما سألت أخي يوسف، المولع بعلم الفلك والنجوم، عن سرّ هذا التغيير، أخبرني أننا على موعد مع ظاهرة «القمر الأزرق العملاق» وعلى الأرجح أنَّه الأكبر والأكثر سطوعاً لهذا العام. وحينما غادر يوسف البيت مسرعاً ليلتحق بأقرانه في مدينة العلوم ومواكبة هذا الحدث الفلكيّ، تملّكني شعور غريب متلبّد كتقاطيع وجهي المضلّل بالحيرة والتساؤل عن سرّ هذا الشغف المختبئ داخلي وهذا الولاء الفائق للقمر.
لم أكن أدري لماذا أشعر بقوّة أنني نبتة زهرية، تتغذى من ضوء القمر وتأكل الأفق. لقد وقفت راجفة في الركن المقابل للنافذة، ثم فتحتها على مصراعيها واستنشقت الهواء. بدت لي الأبنية والشوارع خالية وأنا ملفوفة بالهدوء، مستشعرة التحامي بالأشجار الواقفة على طول الرصيف الممتدّ إلى نهاية الشارع. خُيّل إليّ أنني بلا ملامح وأنني أحتضن كلّ شيء أخضر لامع. وكنت أحدّق في السماء بلا هوادة ثم أنحني وأنظر إلى التربة وكأن اللحظات انحسرت في معراج هائل فتشابك الزمان والمكان بقوّة. لقد كنت في تحوّل ونموّ، لأنساب كنبات زهريّ غنيّ بالأنسجة المنغمسة بخفّة في الأرض لتختلط بالتراب، فيرقد جذعي في جوفه، وسرعان ما تتغيّر مساماتي وينشط الخصب المعهود في حوض عميق. إنّني بانتظار قوّة خارقة تغيّر دورة الحياة لديّ لأنمو سريعاً على إيقاع اكتمال القمر. فجأة، تحوّل لوني الباهت إلى الأبيض الخلاب. وكأنّ هذا الجرم السماوي يتهاوى على الأرض ويوزّع ضوءه لينفلت من طوره القمريّ فيلقي سحره في جسدي ويذهب بعيداً إلى حيث لا أدري. لكنّني لم أرَ وجهه المضيء والمبتسم على الإطلاق.. كنت أحبس أنفاسي وأحاول أن أبرهن له أنّني زهرته المسترخية عند حلول المساء، فأغوص بشكل عجيب في عالم أخضر متوهج. لقد كنت أبحث جاهدة عن تربة رخوة أغرق داخلها، ليزداد طول ساقيّ بعد عدة دقائق، وأرتفع أكثر، فيتشكلّ جسمي الأثيريّ وينسلخ عنّي ليعود للطبيعة. بينما تنفث البتلات البيضاء الرذاذ ولا تتزعزع، رغم الرطوبة وهبوب رياح الخريف الباردة، فيتيّسر لي أن أقترب أكثر من القمر العملاق بوداعة جمّة، رغم أنَّه يتجاهل وجودي كليّاً، فينعكس وجهي الطفوليّ داخله ككائن حيّ حديث الولادة، لكنه يسترجع أشياءه المفقودة في عالم متهالك فقد لونه الأخضر الساطع..

* تونس العاصمة