لمعت كلوبَّات الإنارة في الصالة الوسيعة كألف شمس.نضرب الأرض بمعاولنا كمن ينتقم من عدو قديم. كنا أربعةً وخامسنا شيخنا؛ أنا وأحمد ومصطفى وعيد، أما الشيخ، فقد كان مسعد. يقولون إن الاستعانة بشيخ ورع، ذي علم وفتوح حقيقية، سيساعدنا في بلوغ الكنز. كان يقرأ علينا أدعيته، وكنا نرددها وراءه بصوت خفيض، كعبيد يحفرون قناة أو يشيدون هرماً. كانت الأدعية التي تحوّلت إلى أهازيج تضبط إيقاع ضرباتنا للأرض البائسة. كنا قد حاولنا ألا نرفع أصواتنا كثيراً، حاولنا ألا يصل صوت ضربات معاولنا إلى الجيران اللصيقين، ولكن كل ذلك كان عبثاً في أرض تمتلك فيها الحوائط آذاناً: كنا قد بدأنا الحفر قبل ثلاثة أسابيع، وقبل أن ينتصف اليوم الرابع، سمعنا طرقات خشنة على الباب؛ كان الأمين حمزة، بوجهه الطويل وشاربه الرسمي. حكى لنا مصطفى، أكبرنا وزوج أختي الذي يحب التصدي لمثل هذه الأمور، أنّ حمزة قد نظر إليه بعينيه الصفراوين وابتسامته الأكثر اصفراراً، وسأله عن سبب الضجيج في شقة البدروم التي تمتلكها عائلتنا. تعلّل مصطفى بأعمال السباكة ودك الأرض بالخيش والزفت، لكيلا تنبثق مياه الجوف من تحت ملاط جديد ننوي تثبيته. كانت حجتنا محكمة، فهذه الشقة التي أجَّرتها أمي - كبيرة العائلة بعد موت جدتي - لمهاجرين سودانيين قد انتهبها حريق عظيم. يقول أهل الحارة إن الزُّول الذي استأجر الشقة منا قد شُوهِد يعدو بعيداً في فزع. أخمدنا النيران نحن وعربة المطافئ التي دخلت الحارة بجهد جهيد. قالوا إن سبب الحريق ماس كهربائي، ولكن أمي التي كانت تشم البخور العجيب الذي كان يوقده الزول وزملاؤه في الشقة، والتي كانت تسمع ترانيم غريبة تأتي من هناك، كانت مقتنعة بأن الزول هو من أرباب السحر الأسود، وأن سبب الحريق جنّ غضوب. هكذا كان من المفترض أن نرمم الشقة من أجل إعادة تأجيرها - لم يظهر الزول بعدها أبداً لشهور عدة- قبل أن تضرب الفكرة رأس مصطفى، في أحد الأيام التي كنا فيها سهارى حتى الفجر كالمعتاد، في قهوة مهران غير بعيد من ناصية الحارة.

تفصيل من غلاف الرواية

«وطبعاً أحضرتم الشيخ مسعد ليقرأ على المياه»، أجابه حمزة بلمعة الضبع في عينيه. لم يرد مصطفى، فأكمل حمزة أن اختيار الشيخ مسعد هو اختيار صائب. لقد حاولت عائلة الطوبجي الاستعانة بشيخ من نواحي كرداسة، ولكن رغم السمعة الطيبة والكلام الكثير الكبير، لم يتمكنوا من العثور على «المياه». اكتفى مصطفى بابتسامة مقطبة، قبل أن يمضي حمزة في طريقه، مخبراً إياه أنه عطش، ولا بد أن يزورنا في غضون أيام لبعض من «المياه».
لم تكن مفاجأة، رغم أننا قد حاولنا الحفر في الظهيرة مستغلين ضوضاء الشارع العمومي الضيق التي تنبو منه حارتنا. من ساعتها ونحن نواصل الحفر ليلاً أيضاً. كانت زيارة حمزة إيذاناً بالتخفف من كتمان يبطئ حركتنا، وحذر أثبت أنه لا ينفع. أخبرنا الشيخ أن الكنز قريب، تماثيل المساخيط في انتظارنا الليلة. كان حظنا عظيماً؛ اليوم هو زفاف منصور خطاف، أحد أشقياء الحارة المشهورين، وعلى بعد خطوات منا يرقد الشادر باتساع حارتنا، وأصوات الأهازيج قد بدأت في التعالي في فضاء محبوس بين عمائر متناجية. بعد قليل سيظهر باب المقبرة، كعتبة من عالم إلى آخر. بالنسبة إلى المومياء في الداخل، فسيكون عبوراً من عالم الأحياء إلى عالم الأموات. بالنسبة إلينا فسيكون العكس بالضبط.
هكذا كنا واقفين في الحفرة التي اتسعت لنا جميعاً، حفرة التهمت نصف الردهة وقارب عمقها ربع ارتفاع البيت. احتلّت مخلّفات الحفر نصف الردهة الآخر وبعضَ باقي الشقة، وعندما كنا نرفع وجوهنا للنظر إلى أعلى، أحياناً بلا لزوم حقيقي، كان علينا أن نحاذر بعض التراب الذي سينهال فوق رؤوسنا، خاصة عندما نشد الحبل المتين الذي كان يصلنا بالسطح.
«أتريد شرب سيجارة؟» سألني أحمد. استأذنّا مصطفى وعيد. تذمّر عيد بنبرة خفيضة، قبل أن يعاجله أحمد «اخرس قليلًا يا بقُّو». «بقُّو» كان لقبَه لفمه الواسع وشفتيه الغليظتين. في منطقتنا، يتفنن الجميع في إطلاق أسماء الشهرة، ووراء كل اسم شهرة هنالك حكاية غالباً ما تكون طريفة. وكلما قاوم المرء لقبه المُخترَع، ازداد التصاقاً به. قانون يبدو مقدساً، وعكسه هو ما يجعلني أخشى قليلاً من أننا لن نجد الكنز.
صعدنا إلى السطح، حيث اتخذ الشيخ ركناً هو وكرسيه منهمكاً في أدعيته. كان مستغرقاً في القراءة كمن يتعبّد في محراب مقدس. سألت نفسي إن كان يصلي فعلاً بمثل هذا التركيز والخشوع. حسناً، الصلاة لا تجلب المال. جلسنا وأشعلنا سجائرنا. تنهّد أحمد وقال لي إنه قريباً سوف يتوب علينا الله من السجائر الكليوباترا. كنا نحاول أخذ قسط من الراحة قبل أن نتبادل الأدوار مع مصطفى وعيد. رغم تذمر ذلك الأخير، سوف يحب أيضاً أن يدخّن قليلاً ويرتاح. كنا نفعل ذلك طوال هذه الأسابيع الثلاثة؛ شرب السجائر والشاي وبعض التلكؤ والحديث الدائم عن مصائرنا بعد الكنز. يكرر أحمد الآن هذه التمنيات، سنشتري شققاً فاخرة، لا، عمائر، لا، فيلّا فسيحة، لا، عمائر وفيللاً فسيحة. سنشتري المرسيدس، سنأكل هذه الأطباق الغريبة التي يقولون عليها في التلفزيون، سنلبس كما البهوات الذين يزورون المطعم الشهير في حيِّنا، سيتزوج هو رشا وسأتزوج أنا مريم. كنا جميعاً نفكر مثله، ونتكلم مثله، ولكنه كان أعلانا صوتاً وأكثرنا طنيناً. ربما كان أكثرنا حاجة هو عيد: يعيل ثلاثة من الأطفال وامرأة غضوباً، لا تسعفه حرفته كنقَّاش بكل ما تسعى إليه الزوجة المتطلعة دوماً – كما في كل الحكايات القديمة المعتادة المبتذلة الحقيقية - إلى ما يحضره زوج أختها المتيسّر لمنزله. مصطفى أيضاً، له طفلان أنا خالهما، ورغم أن أختي تمتلك أحنّ قلب عرفته في حياتي، فإن الحاجة مُرة، ومصطفى يعمل في شركة أغذية يملكها مصاص دماء، يصرّ أن يعمل الجميع في أيام الإجازات الرسمية وفي يوم السبت. كان مصطفى محصِّلَ نقود المبيعات وغيرها، ليودعها في البنك في كل يوم بدأب جحش. باعت أختي مصاغاً قليلاً، واقترضت من أمي، حتى يمكن لمصطفى أن يبتاع موتوسيكلاً صينيّاً يساعده في المشاوير اليومية الطويلة. كان مصطفى أميناً؛ مازحته مرة إن كان قد فكر في الهرب بنقود الشركة في يوم قد يفيض فيه الإيراد. ضحك وذكرني بسيرة هيثم عبيدة جارنا: توسّط له الحاج عبد السلام عند مصاص الدماء ليجد له وظيفة، مثلما فعل مع كثيرين من منطقتنا بمن فيهم أنا وأحمد ومصطفى. ادعى عبيدة سرقته مرتين، مرة في الأوتوبيس ومرة حينما اختطفته عصابة في تاكسي. صبر عليه مصاص الدماء في المرة الأولى، خاصة أنّ المبلغ كان زهيداً، ولكنه طرده شرّ طردة في الثانية. أكمل حكايته وفرغ من ضحكاته ليقول لي بجدية: «أتريدني أن أكون لصّاً ابن زانية مثله؟»
كان أميناً في طرقات مستريبة تنتظر الخيانة في كل ناصية، ولها عذرها في ذلك، فقد قُصِفت بالشعارات الفارغة من كل حدب وصوب، وسرت في دمائها خوفَ أن يستبين موسى فرعوناً. هنا يجب أن تكون منيعاً، وقويّاً، وفاجراً وقت اللزوم: طبعاً لكل شيء ثمنه، ومقابل هذه المكانة الأكيدة ستعاني من الحسد والحقد، بل والشماتة إن غلبتك الحياة، أو يكفي أن تكون غنيّاً، هنا يداهنك الجميع ولو سبُّوك في سرائرهم. هذا أو أن تكون عاديّاً، لك من الخطايا ولك من الحسنات، تنال اللكمات وتسددها، ستعيش بشكل جيد، لا تجتذب بطشاً ولا حسداً. أو يمكنك أن تكون ضعيفاً مأكولاً؛ وضع مأساوي لكن له حسناته. ستنال بعض التعاطف الصادق والإشفاق الكبير، لكن لن يتورع أحدهم عن سحقك إن رفعت إصبعاً. هي حرب على المكانة في واقع بائس، ولكن المنطق الفائز دوماً - تبعاً لهذا البؤس - هو الإقرار بأننا جميعاً ضعفاء مستضعفون لو كنا في جانب الأخيار، أو محض لصوص، حفنة من خربي النفوس، إن كنا في جانب الشياطين. والويل كل الويل لمن يحاول أن يعيش بطريقة أخرى؛ ستتحالف الدنيا مع الآخرة مع شياطينهما لجعله عبرة من يعتبر.

(٭) فصل من رواية بالعنوان نفسه صدرت عن «دار وزيز» في القاهرة