أدرك اليهود المستوطنون الأوائل الذين قدموا إلى فلسطين في نهاية القرن التاسع عشر سريعاً، بأن هذه الأرض في جنوب سوريا ليست مجرّد قطعة أخرى من الصحراء العربيّة الخالية من البشر، وإنما بلاد مأهولة وبكثافة من شعب عريق متمسّك بأرضه وثقافته لن يسهل اقتلاعه. حاول بعض روّاد الحركة الصهيونية الذين زاروا «الأرض المقدّسة» إقناع عموم الحركة بتغيير موضع التنفيذ لمشروع الدولة العبريّة بالتعاون مع الإمبراطوريّة البريطانيّة، إلّا أن إرادة كبار حاخامات الصهيونيتين المسيحية الإنغلوساكسونيّة واليهوديّة، استقرت في النهاية على ضرورة الاستمرار في استيطان فلسطين تحديداً بحكم الروابط التوراتية المزعومة.
امرأة على الشّرفة في جبل الزيتون، تنظر إلى القدس الشرقيّة (1929)

تبنت لذلك معادلة «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض» كإستراتيجيّة تقضي بإفراغ الأرض من شعبها العربيّ، واستبداله بـ «شعب» ملفّق، يهود من أرجاء المعمورة استجلبوا بالترغيب والترهيب، ليكونوا مادة المشروع الصهيوني وأدواته، وأيضاً كتكتيك دعائي، لاستدرار حماسة أثرياء المسيحيين واليهود نحو التبرّع بسخاء لمشروع الهندسة الاجتماعيّة الذي كان لا بدّ منه لتحقيق الرؤى التوراتيّة السقيمة. بحكم الهيمنة الغربيّة على صناعة المعرفة والإعلام في العالم، تكرّست هذه الصورة المزوّرة عن فلسطين طوال عقود التأسيس للكيان العبري الموقت بين دخول اللّنبي إلى القدس (1917) والحرب العربيّة الإسرائيلية الأولى (1947- 1949)، ولم تتغيّر كثيراً بعد إعلان قيام «إسرائيل» في 1948 واكتشاف العالم فجأة أنّ ثمة مئات من ألوف الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين قد أصبحوا لاجئين في مخيمات بائسة، إذ إنّ الصورة التي سمح بتداولها حينذاك هي لكتل بشريّة من البدائيين البائسين الذين فرّوا مذعورين من القتال.
على أن مجموعات فريدة من الصور الفوتوغرافيّة (بالأسود والأبيض) التي التقطتها بعثات تبشيرية غربيّة نشطت في «الأرض المقدّسة» بين 1881 و1948 لأغراض التوثيق الاستعماريّ انتهت اليوم كإحدى أهم الوثائق التاريخيّة المصوّرة عن فلسطين، والأرض وناسها، طوال سبعين عاماً سبقت النكبة: مزاجها الطوبوغرافي، وتنوعها الديموغرافي بين المدائن والأرياف والمضارب، ومعالم تطوّر أدوات المجتمع المحليّ في فضاءات التعليم والصحة والعمارة والتجارة والإعلام والفنون والعمل الأهلي، ومحطات من تاريخ نضاله الوطنيّ الباكر سعياً إلى التحرر والاستقلال، كما بورتريهات وصور من ألبومات عائلية، تطيح بمجموعها كل محاولات الإلغاء الآثمة.
لنصف قرن، ظلّ الوصول إلى هذه الوثائق الثمينة التي نقلت لاحقاً إلى مكتبة الكونغرس الأميركي مقتصراً على الخبراء والمتخصصين، إلى أن أقدمت مجموعة من أنصار فلسطين في الولايات المتحدة (مشروع كرامة) على نشر مجموعة مختارة منها على الإنترنت وفي كتاب مطبوع فاخر باللغة الإنكليزية بعنوان «صور فلسطين 1898 – 1946» (الأخبار 18/12/2023) لتلحق بها «دار هيماركيت» اليساريّة وتطرح مجموعة أخرى، بالعربيّة والإنكليزية هذه المرّة، في كتاب حمل عنوان «ضدّ المحو: ذاكرة صوريّة لفلسطين ما قبل النكبة» سيتوافر بنسخته المطبوعة للعموم في 20 شباط (فبراير) الحالي.
شارك في إعداد هذه المجموعة من الصور وتحرير أوصافها كلّ من تيريزا أرانغورين وساندرا باريلار، مع تقديم كتبه الناشط محمد الكرد. يشكّل العمل مساهمةً أخرى وازنة في سياق تعرية حملة إلغاء متجددة ضد الشعب العربي الفلسطيني عبر حرب الإبادة الجماعية تنفّذها القوات الإسرائيلية، بتواطؤ غربيّ وعربيّ، ضد قطاع غزّة، وكاحتفال صاخب بثقافة الفلسطيني، وتاريخه، وتقاليده، وعلاقته الوثيقة بأرضه، وتمسكه بالحياة، وقدرته اللانهائية على الصمود والمقاومة.