رغم حملات التشويه التي تعرّض لها الأمويّون خلال المدة العبّاسيّة أساساً وطوال القرون الماضية، فقد طبعت هذه الدولة التاريخ الإسلامي. نشأت الدولة الأمويّة بعد الفتنة الكبرى بعد الصّلح بين الحسن بن عليّ ومعاوية بن أبي سفيان. وكانت لهذه النّشأة المنبثقة من الفتنة الكبرى آثارها السيّاسيّة والإيديولوجيّة والاجتماعيّة على الدّولة الأمويّة.فقد ركّز الخليفة معاوية بن أبي سفيان الطابع الأرستقراطي القرشي العربي في الدولة الأمويّة بحكم انتمائه لبني عبد مناف في قريش. وسعى الخليفة عبد الملك بن مروان إلى تركيز الهويّة العربيّة الإسلاميّة بتعريب النقود والدواوين ووضع التنقيط للقرآن وبناء قبّة الصّخرة في بيت المقدس.
كما كان الخليفة معاوية بن أبي سفيان حريصاً على تركيز شرعيّة الخلافة الأمويّة المستمدّة أساساً من القصاص للخليفة المظلوم عثمان بن عفّان. وأدخل الخليفة نفسه الحكم الأسروي متأثّراً بالتّقاليد السّياسيّة البيزنطيّة، فحافظ الخلفاء المروانيّون على هذه التقاليد الأسرويّة وحصر الخليفة عبد الملك بن مروان الحكم في أبنائه. وكان الهدف الأساسي للخلفاء الأمويين هو تطوير مؤسّسات الدولة التي أصبحت دولة إمبراطوريّة. فقام الخلفاء الأمويّون وولاتهم، خاصّة ولاة العراق، بمجهود ضخم في بناء الدولة كإنشاء الدواوين كديوان البريد والرّسائل والطّراز وضرب العملة وتعريبها وتركيز التّنظيمات الإداريّة والعسكريّة خصوصاً في الأمصار في العراق وخراسان.

ركّز الخلفاء الأمويّون على توسيع حركة الفتوحات من الهند إلى الأندلس (تصوير أحمد البدوي)

كما حرص الخلفاء الأمويّون ابتداء من مدة الخليفة معاوية بن أبي سفيان إلى مدة الخليفة عبد الملك بن مروان، على تشريك الفئات الاجتماعيّة المتنفّذة والثريّة في الشّام والعراق أساساً وهم فئة الأشراف، فتمكّنوا من السّيطرة على القبائل وتأطيرهم والقضاء على الثورات.
وقام الخلفاء الأمويّون بمجهود ضخم في تركيز الجهاد بتوسيع حركة الفتوحات في الشرق (الهند وبلاد ما وراء النّهر) وفي الغرب (فتح الأندلس والوصول إلى وسط بلاد الغال) والصّوائف (الحملات الصيفيّة على الثّغور باتّجاه بيزنطة). لكنّ الشّرعيّة المنقوصة للأمويين أدّت إلى قيام ثورات ضدّهم وتكوّن جبهات معارضة متنوّعة (شيعيّة وخارجيّة وغيرهما)، فظهرت أوّل حركة شيعيّة في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان في الكوفة (حركة حجر بن عديّ الكندي51 هـ). ثمّ اندلعت الفتنة الثّانية في عهد الخليفة يزيد بن معاوية بعدما رفض أبناء الصّحابة البيعة له بالخلافة. فأعلن الحسين بن عليّ ثورة باسم أهل البيت وانطلق للعراق متوقّعاً دعم شيعة أبيه ولكنّه فشل أمام جيش الدّولة الأمويّة وتحالف الأشراف بالكوفة مع السّلطة. وعاقب الخليفة يزيد بن معاوية أهل المدينة على رفضهم مبايعته، فاستباح الجيش الأموي «مدينة النبيّ» للنّهب والسّلب و«هتك الأعراض». كما حاصر الجيش الشّامي مكّة وضرب الكعبة بالمنجنيق.
حتّى يخضع عبد اللّه بن الزّبير بن العوّام «العائذ بالحرم»، فاخترق الأمويّون «كلّ الحدود والحرمات».
وبدأت الشّرعيّة التّاريخيّة الأمويّة (1) تضعف شيئاً فشيئاً. وتواصلت الفتنة الثّانية بعد وفاة الخليفة يزيد بن معاوية ودخول الشّام - مركز الخلافة الأمويّة - في حرب أهليّة وانتقال السّلطة للفرع المرواني. ونشأت أوّل حركة شيعيّة بعد مقتل الحسين بن عليّ في كربلاء وهي حركة «التوّابين» لتمهّد الطّريق للحركة الشّيعيّة كحركة سياسيّة –دينيّة معارضة للدّولة الأمويّة. وأسّس عبد اللّه بن الزّبير «دولة معارضة» للسّلطة الأمويّة في العراق والحجاز. وقد عرفت مدة الخليفة عبد الملك بن مروان أهمّ الثورات التّي عرفتها الدّولة الأمويّة (كثورات الخوارج والموالي وثورة عبد الرّحمن بن الأشعث الكندي) وكانت كلّها ثورات انطلقت من العراق.
الشرعيّة المنقوصة للأموييّن أدّت إلى قيام ثورات ضدّهم وتكوّن جبهات معارضة متنوّعة


تعتبر هذه المدة (من خلافة معاوية بن أبي سفيان إلى آخر خلافة عبد الملك بن مروان) مدّة مهمّة في التّاريخ الأموي للتّرابط الوثيق بين تطوّر الدّولة كمؤسّسات وأيديولوجيا وفئات اجتماعيّة متحالفة مع السّلطة ارتباطها بالثورات وحركات المعارضة السّياسيّة –الدينيّة.
نشأت الأيديولوجيا الأمويّة بوصول الأمويّين إلى الحكم. فقد هبّ معاوية بن أبي سفيان أمير الشام من قبل الخليفة عثمان بن عفّان للمطالبة بدم الخليفة المظلوم وتطبيقاً للمبدأ القرآني «القصاص»: «ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً». ورفض البيعة لعلي بن أبي طالب لأنّه آوى قتلة عثمان حسب رأيه. ونصب معاوية قميص عثمان في منبر مسجد دمشق وأقنع مقاتلة الشام بشرعيّة خطابه. وقد ساعده هذا الخطاب رغم ضعف سابقته وقدمته التاريخيّة بالمقارنة مع علي بن أبي طالب، في خوض معركة صفّين والانتصار على علي في التحكيم. وتقوّت أيديولوجيا معاوية بفضل طموحه السياسي الواسع وتغيّر الظروف لمصلحته (ضعف علي نتيجة انشقاق الخوارج من «جيشه» وكذلك بروز فكرة «الأجدر» سياسياً لتولّي الخلافة). كما ساعده عمرو بن العاص بفضل دهائه وكذلك اعتماده على أهل الشام الذين كانوا ملتفّين حوله منذ ولايته الشام في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب. وكان موت علي وعجز الحسن بن علي عن تولّي أمور أهل العراق سبباً مباشراً لتولّي معاوية الخلافة سنة 41 هـ. وبالتالي كانت وجاهة المطلب أي القصاص لعثمان أحد عناصر الشرعيّة التاريخيّة الأمويّة 2.
ولم تقتصر الأيديولوجيا الأمويّة على فكرة القصاص فقط، بل شملت جوانب أخرى كمفهوم الدولة العربيّة التي سنحلّلها لاحقاً.

* كاتبة ومؤرخة تونسية

(1) ركّز الخلفاء الأمويّون شرعيّتهم على القصاص للخليفة المظلوم عثمان بن عفّان.
(2): بثينة بن حسين، الدولة الأمويّة ومقوّماتها الأيديولوجيّة والاجتماعيّة، كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة، 2008.