«لا تتفاءلوا كثيراً بمستقبل الإنسانية ولا تحلموا بغدٍ أفضل»! هذه هي الرسالة الأساسيّة لكتاب «كلاب من قش» (2003) لجون نيكولاس غراي الذي صدر أخيراً بالعربية عن «صفحة سبعة للنشر والتوزيع» (ترجمة مدى شريقي). ينظر الفيلسوف والعالم الاقتصادي البريطاني بتشاؤم شديد إلى مصير البشرية، مشكّكاً بكلّ أفكار التنوير والحداثة، وخصوصاً تلك التي تدّعي أنّ الإنسانية في حركة تطوّر دائم. يرى أنّ التقدُّم الإنساني، أي الانتقال من حال وحشية إلى حال إنسية، هو محض أوهام. يرى غراي أنّه حين ابتكر الإنسانيوّن فكرة التقدُّم، مزجوا بين الخرافة السقراطية المتعلّقة بالعقل والعقلانية والأساطير الدينية. يؤمن غراي بأنّ الفلسفة الإنسانوية تأثرت بفكرة الخلاص المُتجذِّرة في العقيدة المسيحية، وحوّلتها إلى مشروع لتحقيق التحرر الإنساني.

هو لا يُخفي إعجابه بالفيلسوف المتشائم شوبنهاور، الذي اعتبر أنّ الإنسانوية، تحجب حقيقة الحالة الإنسانية الهشّة، ويجادل بأنّ الفلسفة التقليدية، بما في ذلك فلسفة التنوير، تُديم خطأً أساسياً موروثاً من المسيحية، وهو الإيمان بالاختلاف الجذري بين البشر والحيوانات الأخرى. يؤيد مؤلف «القدّاس الأسود: الدين القيامي وموت اليوتوبيا» وجهة نظر شوبنهاور القائلة بأن الأفراد يظلون طوال حياتهم أسرى للوهم القائل بأن الوعي والإرادة الحرّة والفردانية تميّزهم بشكل عميق عن الكائنات الأخرى. وهذا الوهم هو أساس المعتقدات الأخلاقية والوجودية للفلسفات الغربية. يستكشف غراي كذلك الطبيعة المُعقّدة والمجزأة للذات البشرية، مفنّداً الفكرة التقليدية القائلة بأن أفعالنا هي نتيجة قرارات واعية. ويؤكد أنّ الإنسان، طوال حياته، نادراً ما يقرر، ومعظم أفعاله تنبثق غالباً من عادات ومهارات عميقة الجذور، لا تقع تحت سيطرة العقل الواعي. كما ينتقد فلسفة إيمانويل كانط، أحد أعمدة عصر التنوير، معتبراً أنّ أفكار الإرادة الحرة والهويّة الشخصية والاستقلال الأخلاقي وأهمية الفضيلة كلها بُنيات خيالية ليس لها أساس حقيقي.
يعتبر غراي أنَّ نظريَّة نيتشه حول الإنسان المتفوّق الذي يتميّز بقوة الإرادة والقدرة على تحدي التقاليد والقيم المتوارثة، وأفكار مارتن هايدغر عن الإنسان صاحب الحضور المركزي في هذا العالَم الذي يُعطي للحياةَ معناها، ويَمنح الشرعية والمعقولية للوجود، قد تأثرت بشكل كبير بالموروث المسيحي حول المُخلِّص والخطيئة الأولى (رغم ادعائها العكس). تسعى هذه الفلسفات إلى خلق معنى للتاريخ واكتشاف الهدف من الوجود الإنساني. أمر يرفضه غراي لأنّه يرى التاريخ البشري كسلسلة لا تنتهي من المصائب والجرائم والحروب الدموية. ينتقد غراي أيضاً فكرة البحث عن الحقيقة التي تنادي بها الأديان والفلسفات الغربية، ويرى أنّ الحقيقة ليست ضرورية للبقاء أو التكاثر، بل يمكن أن تكون عبئاً تطورياً.
يتبنّى غراي نظرية «غايا» للعالم جيمس لوفلوك (1919-2022) التي تفترض أنّ الأرض كائن حي ذاتي التنظيم قادر على المحافظة على البيئات الكيميائية والفيزيائية المثالية للحياة. وفقاً لهذه النظرية، يمكن للأرض تصحيح الاختلالات الناتجة من النشاط البشري الذي أدى إلى تدمير البيئة واستنزاف مواردها. يعتبر غراي أنّ النمو السكاني غير المُنظَّم، الذي تجاوز حالياً ثمانية مليارات نسمة، هو بمثابة وباء بشري اجتاح كوكبنا. ويتوقع أن تعمل الأرض بطريقة ما للتخلّص من الإنسان بهدف استعادة التوازن السابق. يعتقد صاحب «أوهام الرأسمالية العالمية» أن شفاء الأرض من هذا الوباء سيحدث على الأرجح عبر عملية التغيُّر المناخي التي ستؤثر بشدّة على النظم البيولوجية. يتنبأ بمستقبل مظلم للإنسانية، إذ ستؤدي الحروب المستقبلية حول المياه والغذاء والطاقة، بالإضافة إلى التغيّر المناخي الشديد، إلى القضاء على ملايين البشر، ليرجع العدد إلى مستويات ما قبل الطفرة السكانية الكبيرة التي نشهدها حالياً.
يشكِّك الفيلسوف الإنكليزي بسلطة العلم وعقلانيته. يرى أنّ التقدُّم العلمي عبر العصور غالباً ما شكّل تحدياً للعقل والمنطق. رغم استخدام العلم لتأكيد التفوّق البشري، إلا أنه كشف في الواقع عن عالم غامض وفوضوي، عصيّ على الفهم الكامل. يوافق غراي أنّ التطوُر العلمي قد خفّف من حدّة الفقر والمرض، لكنه يرى أنّه أسهم أيضاً في تعزيز الاستبداد ونشر الحروب. يؤكد غراي أنّ الإنسان لن يستطيع التحكُّم بالتكنولوجيا، معتبراً حلم السيطرة عليها مجرد وهم آخر من أوهام الإنسانية الكثيرة، وخصوصاً أنّ التكنولوجيا اليوم لم تعد حكراً فقط على الحكومات، بل تسرّبت بفضل انتشار المعرفة إلى أفراد وجماعات قد تستخدمها لأهداف سياسية وأيديولوجيّة وحتى أغراض إجرامية. ينتقد غراي الثورة الحالية في مجال الذكاء الاصطناعي التي قد تؤدي إلى زيادة البطالة، مشيراً إلى أن المجتمعات قد تتحوّل نحو سياسات ترفيهية وابتكار أشكال جديدة من الرذائل لإلهاء البشر العاطلين من العمل. ويُعبّر الفيلسوف أيضاً عن رفضه لمشروع الخلود التكنولوجي، الذي يراه تجسيداً لطموح ديني يهدف إلى تحرير الإنسان من الصدفة والفناء المحتوم. يُشدّد المؤلف على أن التآكل الطبيعي للجسد الإنساني يُذكّرنا بجوهرنا الحقيقي، المرتكز على عناصر عرضية مثل مكان وزمان ولادتنا، وعاداتنا وخصائص أجسامنا، ويحذِّر من التضحية بهذه العناصر الأساسية في سبيل السعي الوهمي إلى حياة خالدة في الفضاء الإلكتروني.
ينتقد الثورة الحاصلة في مجال الذكاء الاصطناعي


يُجري غراي كذلك مقارنة بين الديانات التوحيدية والديانات الأُخرى، ويرى أنّ الأولى قد تسبّبت في حروبِ دينيةٍ كبرى، كالتي شهدناها في أوروبا في القرون الوسطى. مردُّ ذلك تركيزها على صحة العقيدة والحقيقة بغض النظر عن الطقوس والشعائر الدينية. الطريف أنّ غراي يتوقع أنّه في حالة الانقراض الجماعي للبشر، سيبدأ عصر العزلة، الذي سيشهد عودة التقوى والتصوّف بين سكان العالم المنهكين. ويُشير إلى أنّ المتصوفين، الذين سيبحثون عن ملجأ في الأماكن الطبيعية الفارغة، غالباً ما سينتهي بهم الأمر بجلب ضياع الإنسانية معهم من جديد، بدلاً من الانفتاح على شيءٍ سامٍ ومتعال. كما يرى غراي بأن الإلحاد، الذي يُعرف بموت الإله، سيظلّ مشبعاً بالإطار المفاهيمي للمسيحية، وهو ينظر إليه على أنّه مظهر متأخر للشغف الديني بالحقيقة.
ما الحلُّ إذاً بالنسبة إلى غراي؟ الحقيقة أنّ لا حلول على الإطلاق، لأن غراي يرى أن الإنسانية لا تستطيع العيش من دون أوهام ومغالطات فكرية، ومهمتنا أن نميّز بين الأوهام التي نستطيع التخلّص منها، وتلك التي لا نستطيع التخلّي عنها. يدعو غراي البشر إلى ممارسة التأمل والتخلّي عن حبهم الانطوائي للأشياء البشرية. يدعوهم إلى تحقيق الصحّة الجسدية والعقلية على «الضفة المقابلة للإنسانية» عبر مرافقة الحيوانات، معتبراً أنّ الإنسان العاقل هو نوع من بين أنواع كثيرة أخرى موجودة في الطبيعة، ربّما من دون أي ميزة تفضيلية. أما الأرض «غايا» فستتنفس الصعداء وتبقى على قيد الحياة لمدة طويلة بعد رحيله عنها.