كأنّه سيزيف معاصر! يستمر البروفيسور اليهودي الأميركي نورمان فينكلشتاين (1953) في مقارعة باطل «الصهيونية»، دافعاً صخرة حقيقة الأيديولوجيّة الناظمة لوجود الكيان العبري الملفّق وفلسفة ممارساته المتوحّشة إلى أعلى قمّة جبل اصطناعيّ هائل بنته الإمبريالية الغربيّة من مراكمة قمامة البروباغاندا والتضليل. كلّما هوت تلك الصخرة، عاد هذا النبيل متحاملاً على آلامه الكثيرات ليحملها فوق كتفيه مجدداً، لعلّ بقية من عقلاء في هذا العالم تتنبه إلى خطورة أن تكون هناك «إسرائيل». رغم أنه ليس متخصصاً في القانون، إلا أنّه أصبح منذ بعض الوقت محام أوّل عن غزّة، يطوّع قدرته الفائقة على التحليل والتدقيق الأكاديمي الصارم لنسج سرديّة مضادة لأكاذيب الصهيونية تبدّد ستراً من دخان كثيف ينفثه أكاديميون ومثقفون متصهينون تموّلهم السلالات المتواطئة، بينما تعجز الغالبيّة، كما ديدنها، عن إدراك أبعاد الصورة الكليّة بكل تعقيداتها وتشابكاتها.
صورة غلاف «غزّة: تحقيق في استشهادها»

كتابه الأحدث «المنهج والسّعار: الأبعاد الخفيّة للاعتداءات الإسرائيلية على غزة» الذي تزامن صدوره في تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي مع انطلاق العدوان الإسرائيلي الحاليّ على القطاع، نذير صريح بأنّ لجوء الكيان العبري إلى حروب التوحّش ليس أمراً انفعاليّاً أو مرحليّاً، بقدر ما هو نهج متعمّد، عابر للحكومات يمينها ويسارها، وغايته تصفية قضية الشعب الفلسطيني، وتخريب كل ما من شأنه أن يسمح بأي صيغة تسوية معه، ولو بشروط تضمن ديمومة بقائه مغروساً في قلب الشرق العربي. بعد أشهر على صدور الكتاب، يمكننا التيقّن من صحة مرافعة مؤلفه ودقة قراءته لمنطق المشروع الصهيونيّ عبر مضاهاته بحرب الإبادة التي تواصل القوات الإسرائيلية شنّها ضد الفلسطينيين، ولا سيما استهدافها الأطفال والشبان، هؤلاء الذين اعتبرهم فينكلشتاين سرّ غزّة الذي يقض مضاجع القادة العبريين، وأيضاً ذاك التعنّت الصلد ضدّ كل دعوات وقف إطلاق النار، أو مشاريع التسويات السياسية «السلميّة»، ولو طرحت من قبل حلفاء الكيان وطاقم الدويلات المتواطئة معه.
قبل «المنهج والسّعار»، كان فينكلشتاين قد وضع سجلاً تاريخياً موثقاً صدر في 2021 بعنوان «غزّة: تحقيق في استشهادها» عن الحروب الإسرائيلية المتكررة ضد قطاع غزّة في العقد السابق. حروب ترتقي منفردة وفي مجموعها إلى مستوى كارثة من صنع الإنسان، ليس في طول أمدها وقسوتها المفرطة فقط، بل أيضاً في اقترافها علناً، في وضح النهار، على مرأى ومسمع وتواطؤ كثيرين بمن فيهم حرّاس ما يسمّى بالقانون الدولي، من منظمة العفو الدولية، و«هيومن رايتس ووتش»، إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذين خذلوا غزة وشهداءها إلى درجة تلاشت فيها الفروق بين المرتكبين والمتغافلين. السرد الشامل لأهوال عمليّات «الرصاص المصبوب» و«عمود السحاب» و«الجرف الصامد»، ومحاكمتها من الناحية القانونيّة، جعلت من هذا الكتاب الرواية الأكثر موثوقيةً لهذه الصفحة من تاريخ التوحش الصهيوني، ونصباً تذكاريّاً خالداً لأرواح الآلاف من الأطفال والنساء والرجال الذي ذهبوا ضحيّتها.
على أنّ أهم كتابات فينكلشتاين التي تضيء على جزء من المشهد اليوم بعد انطلاق جولة حرب الإبادة الأحدث ضدّ غزّة، هو نصّه «لقد أصبحوا يعرفون الكثير: لماذا تتجه العلاقة الرومانسيّة ليهود أميركا إلى الاضمحلال؟» (2012). حلّل هنا إرهاصات تحولات الرأي في أميركا، بخاصة في أجواء الجالية اليهوديّة هناك كما في جميع أنحاء العالم، ضد الكيان العبري، وما تسببت به حلقات الإبادة الجماعية المستمرة ضد الفلسطينيين من أضرار للصورة الرومانسيّة عن الـ «يوتوبيا» العبرية التي طالما روّجت لها الحركة الصهيونيّة. وخلافاً للتغطية الإعلامية، يُظهر فينكلشتاين كيف تم التلاعب بيهود أميركا والعالم طوال عقود للحصول على دعمهم، وتوفير الغطاء للجرائم التي ترتكبها السلطات الإسرائيليّة بحق سكان الشرق العربيّ، فيما تواصل تلك السلطات تكريس منظومتها داخل الأراضي التي تحتلّها كأحد أبشع أنظمة الفصل العنصريّ في التاريخ.
في وقت ما، كان فينكلشتاين ـــ في انتقاده المنتظم والمهنيّ للدولة العبريّة ـــ أقرب لأن يكون استثناء بين يهود أميركا. دفع لذلك ثمناً كبيراً نتيجة حرب شاملة شنّها عليه اللوبي الصهيوني، على أنّه اليوم في قلب تيّار عريض، بينهم جيل جديد يعرف الكثير عن معاناة الفلسطينيين، ويدفع باتجاه التملّص من ارتباط مخجل بسعار القتل الذي استحكم بالمشروع الصهيوني. لا عدالة في هذا العالم، لكن يبدو، أقلّه في ما يرى فينكلشتاين، أنّ دماء شهداء غزّة ستكون لعنة على القتلة.