بعد كتابها الأوّل «رواية الحديث بتاء التأنيث» (تونس 2022)، صدر أخيراً كتاب جديد للباحثة في الدراسات النسوية والدينية هاجر منصوري تحت عنوان «نون النسوة في الخطابات الدينية: حفريات ورهانات حضارية» (الدار التونسية للكتاب). كما هو واضح من العنوان، تواصل منصوري «حفرياتها» في الحقل المعرفي نفسه وهو قضايا النسوية الإسلامية التي تعدّ منصوري من المتخصّصات فيها في تونس. إذ تُعدّ من الجيل الجديد الذي تخرّج في الجامعة التونسية بعد جيل زهية جويرو، وآمال قرامي، وسلوى بالحاج صالح، وهالة الوردي، وناجية الوريمي، وآمنة الجبلاوي وغيرهن. جمعت منصوري في هذا العمل خمس مقالات ــــ كما سمّتها ـــ يلتقي جميعها في مناقشة حضور المرأة في الفقه الإسلامي. منذ بداية الكتاب، تحدّد منصوري مجال بحثها وحدوده وخصوصيته، واصفةً إياه بأنّه «خيار بحثي استدعته حفرياتنا منذ انطلاقتنا البحثية في تقصّي حدود حضور النساء في المعرفة الدينية في المجتمعات العربيّة الإسلامية قديماً وحديثاً». تنبّه منذ البداية إلى أنّه «لا يتيسّر لنا فهم هذه النوعية من الخطابات بمعزل عن تمثّلنا للخطاب الديني في كليّته بنيةً وسياقاً تاريخياً». تعتمد منصوري في تناول قضايا النسوية الإسلامية مقاربات العلوم الإنسانية «بما تفرضه من صلات بين الواقع الاجتماعي والثقافي الذي أطّرها».

عبر الدراسات الخمس («الحداثة والخطاب الديني بين الجذب والنّبذ»، و«المرأة والإمامة الصغرى في فقه ابن عربي: الانفتاح الفقهي في وجه الإجماع»، و«تفسير القرآن في الإبستيمية المعاصرة: مقاربة تفكيكية نقدية للخطاب حول المرأة في تفسير ابن عاشور» و«خطاب القبيسيات ورهان التغيير الاجتماعي» و«الداعيات والخطاب الديني في الفضائيات العربية الدينية المتخصصة»)، ترى منصوري أنّ «نون النسوة» ظلّت دائماً رهينة التفوّق الذكوري «لأنّ المجتمعات العربية تتحكّم فيها أنساق ومسارات فكرية» صاغها الرجال على مقاسهم وخدمة لمصالحهم في النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية. أمر جعل هذه «النون» مرتهنةً آلياً للتمييز بين الجنسين وتكريس التفوّق الذكوري.
حتى خطاب «الداعيات في القنوات الفضائية الدينية»، لم يفلت «من نظم التمييز بين الجنسين لمصلحة الرّجال سواء على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والديني أو على مستوى العادات والأعراف». وتضيف متحدّثة عن الداعيات: «خضعت الصورة النمطية للنساء المكبّلة بترسانة المحظورات والمحرّمات في سياق إدانة لمكتسبات الحداثة الفكرية». وتشير منصوري إلى مفارقة بين مضامين خطاب الداعيات الماضوي و«استثمار أرقى التقنيات التكنولوجية واللوجستية».
تتوقّف الباحثة عند تفسير «التحرير والتنوير» لإمام الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) الذي يُعد من التفاسير الأساسية للقرآن. ترى أنّ خطابه حول المرأة خضع «للإطار المعرفي العام الذي يقرّ بالهيمنة الذكورية من جهة ويوحّد بين هذا الفكر والدين من جهة أخرى». كما أقرّ بـ «التمييز الاجتماعي بين الجنسين» رغم أنّ تفسيره الصادر في ثلاثين جزءاً (تونس 1956 والقاهرة 1966) صدر في زمن أصبحت فيه الأصوات التي تطالب بحرية المرأة والمساواة عالية مثل «مجلة الأحوال الشخصية» (قانون الأحوال الشخصية التونسي الذي أقرّ في آب/ أغسطس 1956) التي مثّلت ثورة في التشريعات الإسلامية. في مقابل ذلك نجد رؤية ابن عربي مختلفة. إذ إنّه في الفتوحات المكية «يشيّد للمرأة في موضوع إمامتها الصغرى، طرحاً فكرياً يخرج عن الصيغ السائدة ويؤسس لصيغ جديدة متفاعلة مع ديناميكيّة الواقع الذي يعيش فيه». وقد راهن على «أن تنفتح دراسة المرأة على تصوّرات جديدة لكل من العلاقة بينها وبين الرجل، ولمفهوم الذكورة والأنوثة عوضاً عن التمييز بين الجنسين الذي ترتّب عن ثنائية الخلق والوجود».
إضاءة على «الداعيات» وتعاطي مفسّري القرآن والمتصوّفة مع قضايا المرأة


تدعو هاجر منصوري في هذا الكتاب إلى مراجعات شاملة للخطاب الديني المتعلّق بالمرأة على ضوء مكتسبات الحداثة وحقوق الإنسان، وما قدّمته المناهج العلمية من «تمثّل للإنسان يحرّره مهما كان جنسه من أشكال التمييز والأوهام المصنوعة تاريخياً واجتماعياً التي تُغلّف بالبُعد القدسي والمفارق حتى تتأبّى على كل تغيير». وترى أنّ العنف الذي تعاني منه النساء في العالمين العربي والإسلامي ذو جذور موجود في الخطاب الديني الذي «يعمّق التصوّرات القديمة والمتوارثة التي تبقى تنتظر الفرصة السانحة للتعبير».
هذا الكتاب الذي تضيفه هاجر منصوري إلى رصيدها من الكتب والبحوث والدراسات، إضافةً جديدةً في مدوّنة الباحثات التونسيات في مجال قراءة النص الديني وتفكيكه، هي التي جعلت منهن ظاهرةً في العالم العربي من طالبات هشام جعيط ومحمد الطالبي وعبد المجيد الشرفي.
كان منطلق منصوري في دراسات هذا الكتاب الخمس اعتبار أن الشأن النسائي في الخطاب الديني «مثّل محرّكاً لكلّ قراءة تحديثية فيه». فقد تمسّك المحافظون بتأبيد وضعية النساء على مستوى الأحكام والأحوال الشخصية، فكل شيء قابل للتغيير إلا ما يتعلّق بـ «نون النسوة من تصريف لأجساد صاحباتها وأدوارهن في الفضاءات العامة». يمكن اعتبار أنّ هذا الكتاب قد فتح نافذة أخرى في تفكيك مدوّنة الخطاب الديني المتعلّق بالمرأة من زوايا أخرى بما فيها المتّصل بحضور «الداعيات» في وسائل الإعلام وتعاطي مفسّري القرآن مع قضايا المرأة وكذلك المتصوفة.