1. تضحية أخرىانتظارٌ غريب
ما يملكه الوقت من وقت
لا يعرف ما يفعل به
هذه المسامير من الزّمن المتوقّفة
أمام بوابة الجلجلة الجديدة
مثل مصادفة تتظاهر بقراءة الغيب
تمرين أخير لدقيقة صمت

صفوان داحول ــ «حلم» (زيت وأوراق ذهبية على القماش ــ 120 × 100 سنتم ــــ 1992)


أمّا الذين وضعوا مصيرهم بعناية كأجنحةٍ تصطفّ
في قلب الرّيح قبل المواجهة
غرباء خرجوا بعاطفةٍ مخادعة
لم يمرّ يومٌ عليهم
انتهى بهذه السّرعة
أو خطر تحت الرّاية المقدّسة
بعد آلاف الأميال ثمّة ثورة مضادة
حياتهم تدور في مراهنة
ينظرون إلى عيون بعضهم
ما من رمية نردٍ أخرى
تعود بهم إلى حيث كانوا
تركوا خلفهم الحقل وموائد الشّراب
وفي السّراب القادم أوّل الفجر
كانت رؤوس عائمة على وشك الغرق
ونهر يشعر بالتّعب

العطش منذور للجسد الثاني كإكليل شوك
العدوّ يفكّر فيما سبق
لكن المحاصر نزل من على المدرّج المزدحم
واقترح أن ينهي رتابة اللّحظة بكرنفال ملحميّ
بعدما اختار لنفسه
أن يمضي مع كلّ من معه إلى الصّلب

2. عن البيوت الفارغة
حتَّى تعود إلى البيت
لا تهاجر بعيداً عنه
فتنسى طريقك المختصر
وتظلّ طوال العمر
تتابع السّير دون أن تصل إلى نهاية المدينة

عابراً على بقاياك
لا يحقّ لك أن تخسر مكانك
فأنت سيّد هذه المملكة
ومن يتخلّى عن خطوة أو غيمة
لن تكون بعد اليوم الأرض له
أنت تحمل أسماء الأشجار
وأسماء الكواكب
هذه هي كلّ الكائنات
تنسب إلى قلبك

حتّى تعود إلى البيت يجب أن يكونَ هناك
بيت لم تقصفه طائرة حربيّة أو قذيفة
أحدٌ ما ينتظرك
ويقول لك: لماذا تأخّرت؟
لكن ما يفعل من يحمي وجوده بالمشي وحيداً
توقّفْ
وانظر إلى الوراء
تذكّر ما عليك
افتح باب بيتك
إنه فارغٌ إلا من حنين الذين رحلوا قبلك
املأه مرّة أخرى
كن الطّفل والألعاب
والصّور بنورها الشّبحيّ
ضعْ زهرةً بجوار النّافذة
تفقّدْ ذكرياتِك التي استعدتها
واحكمْ بلدك

3. تكرار
أرضٌ صادفَ أنّها
من حين لآخر
تجرّها عربات بعجلات مصنوعة من أرواحٍ بيضاء
تجرّها في اتّجاه طرقٍ عمياء
هكذا
يتوهّم من يغيّر اسمها
أنّه صار مِن
السّكّانِ الأصليّين
إنّهم يتسابقون
في إيجاد الكلمات
كشاهدةٍ على المساءات التي فيها
يدفع الزمن أبديّته
إلى أسمائهم
كأنّما عليها بأيّة وسيلة عبر كلّ العصور
أن تحتفي بمن يسوقها
بالتّاريخ
أو الأسلحة
وها هي بلا انتصارات
تخلطُ كلّ الجراح
صخوراً
جبالاً
وهياكلَ

قليلاً من إيمانك لمن هُجِّروا مرّتين
والمنازل نائمة
في غفلةٍ عن هلال
لم يصبح قمراً

أرضٌ لا مهرب عنها
أرضٌ أخذت تثقل بعد عدوها الطّويل
وعلى جدرانها المتصدّعة
معلّقة جميع المفاتيح
التي خرج أصحابها بحثاً عن أرواحهم
بين العجلات المهرولة

4. عزلة
اللّيالي التي لا نبكي فيها
ليست أقلّ حزناً
من طليعة المعزّين المُجهدين
إلى أصغر إدانةٍ على موتٍ يجلس مثقلاً برائحة الدّم بعد نهاية الحرب
وأنا بين الهتافات قاتمة الألحان
التي حدّدتها المراثي

هذه الأحزان
مهارتنا التي تحاصرنا
في القرية المعزولة
إنّها في الأعماق تستعذب الظّلام
وتستيقظ على تنهّدات القلب
مختفين عن الأنظار
وعن الشّمس
الكلّ
يتبع نفس الوهم
لا جيران بالقرب
ولا نجوم تتعقّب خطواتنا
في اللّيالي المظلمة
وحدنا
تدور أعمارنا على
أيّام لم نستطع
أن نغادرها،

عندما يتذكّرنا النّاس
وشيئاً فشيئاً ينحسرُ زيف الطّمأنينة
نكون مبتعدين كثيراً عن أنفسنا
هناك أشياء عديدة في الحزن
بلا فهم أو مغزى
لكن
لا أتعجّب من سوء الحظّ
الذي يحجب العالم
عن قرية صغيرة
وبعيدة جدّاً

5. مواجهة
صيف 2002، ريف دمشق
محاضرة على مقربةٍ من أحد القبور الفخمة
تحدّث خطيبٌ عن قصّة بابٍ منذ أكثر من ألف عام
ولم يُغلَقْ

في اليوم التالي
كان لقائي الأخير مع محمّد حسين فضل الله
في ضوء عينه السّحريّ
بلطف تستطيع أن تخرج المشهد المتقلّب
من الظّلام
رأيته
يتأمّل ما يمكن أن تمنحَهُ الكلمة من سلامٍ سماويّ
قايض كلّ شيء بالحبّ
رغم ألسنة اللّهب
وقبل أن أودّعه
أخبرته عن خطيبٍ تحدّى من حضر بالوقوف ومواجهته
أنّ بعضاً من الحديث الذي دار بيننا قبل قليل لا أصل له
نظر إلى عينيّ،
كان يعرف أنّ ذئاباً مُنْتَحِبَة
ترغب في حرق الباب
وتسوّي بيت مَنْ تبكيه بالأرض
الكلمات التي خرجت من فمه الصّغير
لا أدري هل كانت عتباً أم سؤالاً:
لماذا
لماذا لم تقف يا ولدي؟

6. دمع حر
كلُّ شيءٍ خفيّ متّقد
جمر الخوف والتّقليد
لغز في كلّ بريقٍ غامض

الحرائق المشتعلة
لا علاقةَ لها بمن يرقد غيرَ باحثٍ عن جائزة
مَن نسبوه رغم موته الاعتياديّ
إلى مرتبة التّضحية
حتّى لا تزولُ القداسة
من أيّ عضوٍ في المجلس
ملؤوا روحه الهائمة بحروبٍ غير معلنة
وفي لحظةٍ التجلّي المبهمة
تنسكبُ دموعٌ على الفور
من عيون تدسّ الحكمة
بعيداً عن النّور
ليظلّ من لم يفكر
على هذا النّحو الأسود في القمّة

دمعي حرّ
لن أمنحَ للآخرين فرصة
ملء جرّة الرماد من أجسادنا
لا العين وظيفتها البكاء
أكثر من أن ترى
ولا الضّباب المظلم
على تخوم الرّثاء
يبلّل الجراح النّافذة
بالمغفرة

دمعي حرٌّ في أمسيات المعذّبين بأمنياتٍ
تتأرجح على جنازةٍ خالية
والنّجم العابر على الموت والصّلوات
ينظرُ إلى الأفق
الدّاكنِ في السّماء

7. موج في القلب
الموجة
تصعد تهبط
بلا سترة نجاة
كأنّ في داخلها
حياة أبديّة

تنتقل طويلاً ثمّ تعود إلى بدايتها
لا عمقَ فيها
شلّالٌ صغير أفلت من المكان
موجة مجهولة
لا يد يمكنُ
أن تلتقطها
ولا غيمة يمكن أن تنصب شبكتها عليها
لكنّها
نادراً ما تتذكّر أنّها
تطفو كقطرةٍ في الكون

أشعرُ الآن
بشراع السّفينة في البعيد
كنت معهم
لا يمكن النّسيان
الموجة المقذوفة في الصّمت
عرفتها سريعاً
كما أعرف في الضّوء المجاور
دوائر الماء
التي لم تلحق أن تصير موجاً
ذكرى إثر ذكرى
تمرّ حياتنا غريبة
في العتمة،
على امتداد الرّحلة القديمة
هذه الأمواج الضائعة
ما أعدّها البحر لي
كأنّي أنثر على قلبي
ملح أيّامنا

8. أمهات
الأمّهات باقيات بعد نهاية الحرب
مع سحب المساء
تعكس ظلّاً من الضباب على
وجه مغطّى
بالدّمع والتّراب

أحضرن بيوتهنّ كاملة
للذي تأخّر في الإياب
وأنكرن سطوة الموت
في تسمية الغياب
حيث المختفون في الجهة الأخرى استفاقوا
بعد فوات الوقت أحراراً من الطبيعة المُضلِّلَة

الأمهات اللواتي ينتظرن في ثوب المنزل
النائب الآتي من خلف مكتبه بالزّيّ العسكريّ
أمهات بطلهنّ الوحيد
يسيل دماً في رسالة
إنّه أصغر من جرح لامس حتّى الموت دمه
وأقلّ شهرة من كلمة وداع عند نهاية الحياة

استلقى على ألمه الشخصيّ
وفي هلوسته أعاد الذاكرة
كيف أطلق النّار على السماء
وعاد مع أوّل الرّصاص
محمولاً في الهواء
سيّدات اللّحاف الأسود
تحت ظلامٍ غير مألوف
يسردن قصّةً طويلة عن الدّموع المخزَّنة
لمن صار وجهه قمراً مسحوقاً
في كلّ ليلة
مَسْقِط

(٭) مقتطفات من ديوان بالعنوان نفسه صدر أخيراً عن «الدار الأهلية للنشر» في عَمَّان