أتمنى حقاً ألا «يتبدّد» اسم الكاتب الصيني هان تشاو غونغ من ذاكرتي. فهذا كاتب عظيم تأخرت معرفتنا به لولا اختيار يارا المصري الشجاع، المغامر، الملهم لترجمة نصه الفاتن والفائق «قاموس ماتشياو» بوصفها الترجمة العربية الكاملة الأولى. وأستدرك هنا للقول إنّ لا علاقة للإشارة لهذه الرواية بما أكتبه هنا، إذ لا يمكن لمقال صغير أن يتناول رواية فخمة كهذه. لكني أحبّ التوقف عند كلمة «تبدد» التي تأتي بين عناوين فصول هذا النص. منذ قرأتها وأنا أعاود تأمل معاني كلمات من مثل: التبدد، التحلل، التفكك، الاختفاء، الموت، ومعان أخرى قريبة. «يتبدَّد» ليس بمعنى يذوي أو ينتهي بل بمعنى يضمحل. فكم يمكن للضحالة أن «تقتل» أشياءً إن تُبدَ لنا نظنها حية، بينما تعاني من مهانة قاتلة!
«حين حكى لي الناس قصة داي شي تشينغ استخدموا كلمة «تبدد»؟ قالوا لي إن والد تييه تشانغ لن يتسول بعد الآن، لقد تبدد. ويبدو جليّاً أن تبدَّدَ يعني مات».

«ألف ليلة وليلة» نص مركّب يتبنى مفاهيم شديدة الحداثة، ضمن ما يطلق عليه اليوم «الميتا رواية»

يقول غونغ: «التراكم والتماسك هو بالطبع عكس التبدّد، التماسك جوهر الوجود، وجوهر الحياة؛ يتجمع الدم والطاقة ليكوّن الإنسان، تتجمع السحب لتشكّل الأمطار، تتجمع الرمال لتكوّن الأحجار، تتجمع الكلمات لتنتج الأفكار، تتراكم الأيام لتخلق التاريخ (..) وبمجرد أن يضعف هذا التماسك، تأتي بداية الموت. أحياناً كلما توسعت الأشياء وازدهرت وتجاوزت حدود قدرتها على الحفاظ والاستمرار في الحياة، أصبح التماسك الداخلي أكثر صعوبة».
أتأمل حياة الرواية العربية الراهنة، فتخاتلني كلمة تبدُّد!
لا يعود ذلك إلى انحسار عدد كُتّاب الرواية، أو لانعدام الأفكار التي يحبكها كتبة وكتاب يسوّدون بها صفحات أعمالهم الأدبية، بل يأتي التبدد من منطقة أخرى تماماً: منطقة الاستخفاف، الاجتراء، الغفلة السردية، الاستسهال. وهذه تقريباً الأوصاف الجامعة لعدد كبير من كُتّاب صغار، في العمر والخبرة، بل من بعض الكتاب المستقرّين، للأسف، الذين يتجرّؤون على السرد (طبعاً سيقول البعض ومن أنت لكي توجه اتهامات كهذه لهؤلاء الكتبة، ولأصحاب السؤال أقول نعم من أنا لأقول ذلك، ولكن لتتّسع صدوركم وامنحوني صكّاً بالغفران أثابكم الله).
الاجتراء والغفلة والاستسهال تجسد وصفاً جامعاً، يتجلى في روايات خفيفة لا يمتلك كتابها معرفة باللغة، أو تاريخ السرد، ولا بالمعنى الحقيقي للرواية.
وقد يسألني البعض وما الرواية أيها المتفذلك؟ ولهم أقول إنّه أيّاً كانت تعريفاتها، فلا بد من أن تتضمّن مسألتين أساسيتين؛ أولاها أنّ الحكاية وحدها ليست رواية، وأنّ خلوّها من الفكر يقصيها من التعريف، كما أنّ الحكاية بوصفها أداةً وحيدةً ينتهجها كاتب ما، لا بد من أن تتضمّن فكرة فلسفية أو معنى عميقاً أو دلالة رمزية بعيدة كحد أدنى.
وهنا لا بد من أن أكرّر أنّ المرجعية الرئيسة لفن الرواية، غرباً وشرقاً، هي «ألف ليلة وليلة». وقد يبدو هذا النص الفاتن، كمجموعة متوالية من الحكايات التي تعتمد على خيال جامح، وهذا حقيقي، لكنّ الحكايات مجرد جزء من البناء، بينما في الجوهر هو معالجة درامية للقصة الإطارية. هي عناصر اختلقتها شهرزاد على مدى ألف ليلة لتعالج شهريار من مرضه الشيطاني ممثلاً في الغيرة المريضة التي حوّلته إلى قاتل متسلسل. وأي قراءة خاطئة لهذا النص تتسبّب في فهم قاصر للنص نفسه أولاً، ولفنّ السرد من جهة أخرى.
بهذا المعنى، ينبغي أن نتبيّن أن فن الرواية كما اقترحته «ألف ليلة وليلة»، حتى لو كانت تبدو في بداياتها، أو حتى وفقاً لتصنيفها الأكاديمي اليوم، كجزء من تراث الحكي الشعبي، هي نص مركّب يتبنى مفاهيم شديدة الحداثة، ما يطلق عليه اليوم «الميتا رواية» أو الرواية المركّبة، أو الرواية داخل الرواية.
أكرّر أنّ المرجعية الرئيسة لفن الرواية، غرباً وشرقاً، هي «ألف ليلة وليلة»


هذا هو الفهم الذي وصل إليه مؤسس الرواية الغربية المعاصرة؛ ميغيل سيرفانتس وهو يبني عمله الرائد «دون كيشوت»، التي انتهجت، بشكل أو آخر، منطق بناء ألف ليلة، ببناء حكاية إطارية تعتمد على جنون قارئ أسطوري بسبب الإفراط في القراءة، وانتقاله من حال القراءة الذهنية إلى منطقة الفعل، ليتحوّل إلى مغامر يتبنّى أفكار المغامرين الأسطوريين من الفرسان لإنقاذ العالم من مستنقع الشرور.
لكنّ المفارقة التي يبنيها سيرفانتس تُبنى على دلالة تم تمثيلها بحسّ ساخر وبأدوات سردية بارعة موجزها أنّ القراءة النظرية مع أوهام الهستيريا كفيلة بتحويل دون كيشوت (وكل دون كيشوت واهم وحالم لا يمتلك أدوات تحقيق أحلامه)، من فارس وبطل إلى أضحوكة يرثى لها.
وبهذا الفهم العميق لفنّ الرواية، التقط الكتاب الغربيّون الخيط ليؤسسوا مدارس فنية أدبية متباينة تقوم على صياغات جديدة لفن الرواية تضمنت؛ إما فهماً عميقاً للنفس البشرية، أو لتغيرات المجتمع بناء على فهم أثرها في النفس البشرية.
في الأثناء، التقط بعض الكتبة المغامرين خيطاً رفيعاً يتعلق بجانب أو جزء مثل المغامرة، أو الرومانسية، أو الاكتفاء بحكاية من دون تعميق إطار هذه المغامرات أو العلاقات العاطفية أو فلسفة الحياة، فوقعوا في فخ الفهم السطحي لفن الرواية. لكن المجتمع الغربي بمستوى الثقافة التي بلغها خلال القرن الماضي، منع هذه الأعمال من أن تأخذ تقديراً يفوق حجمها أو قيمتها، واعتبرها روايات تناسب قراء مراهقين لا يهتمون بفنّ الرواية ولا بتاريخها، يحتاجون إلى قراءة أعمال سطحية تدغدغ مشاعرهم وليس أفكارهم.
واليوم نرى نسخاً مشوّهة لهذه الظواهر في الوسط الأدبي العربي، عبر وسط أدبي مزيّف مدعوم من مجتمع قرائي غارق في السطحية، وقراء لم يسبق لهم قراءة أي رواية حقيقية مترجمة أو عربية، وقراء سطحيين يقدمون قراءات ساذجة لروايات أقل من عادية بإعادة حكي قصصها، ثم قد يدعم هذا الوسط أيضاً لجان تحكيم جوائز يعاني ممثلوها من فساد الذوق الأدبي والمنهج النقدي، وغير ذلك.
وبهذا كله يتم إغراق السرد في عالم مركب من الضحالة، وبهذا المعنى بدأ عصر «تبديد الرواية العربية المعاصرة».

* كاتب مصري