يقول ر. م. البيريس في كتابه «تاريخ الرواية الحديثة» إنّ «الإيقاع الروائي هو إيقاعٌ للمحاورات بأكملها، وللحوادث وللمشاهد الروائية، فبعض الروايات يكون انسجامها الداخلي من خلال قوة الترابط التي توحي بها وتعقدها، وبإيقاع الحركات الروائية التي تتصالب فيها». لكنّ المؤكّد أنّ ما يمنح الإيقاع قوّةً خفيّةً، هو زوايا الرؤى التي تمّت عبرها عمليات تشكيل عناصر النصّ وعلاقاتها، وبالتالي إيقاعه. من هنا ندخل إلى رواية «مقامرة على شرف الليدي ميتسي» (دار دوّن ــــ 2023) للمصريّ أحمد المرسي، لمحاولة الكشف عن خبايا إيقاعاتها التي صنّفها بعضهم بأنها رواية سينمائية. يظهر إيقاع الرواية في بداية النصّ ونهايته، مشغولاً على طريقة الشعر الحديث، إذ يكرّر النصّ مشهداً بدأه في افتتاح الفصل الأول، وينهي به الرواية، ليحثّ القارئ على إعادة البحث عمّا قصده الكاتب في روايته، وهذا يحيلنا إلى لعبة ذكية لدى الكاتب، ليقول للمتلقّي: أعطيتك خيطاً في البداية، عُد واقرأه، فهل توقّعاتك كانت صحيحة؟

تبدأ الرواية بمشهدية لجثة فوزان الطحاوي العجوز، الذي وصفته الرواية بأنه بدا كالجنين الذي ضمّ يديه إلى صدره، رمزاً لطلبه من الموت بأن يمهله بعض الوقت. مع موته، يستطيع غالب الطحاوي التسلل إلى عزلة الرجل ليبحث عن أدلة على أنه قتل والده وسرق حجج أراضيهم، فتكون المفاجأة بعثوره على قصاصات جرائد لسباقات خيل، وبعض الخطابات، وصورة تبدأ عبرها القصة، فنسافر إلى عام 1920. وعندما يعيد المشهد في النهاية، يختلف كلّ تحليلك بوصفك متلقّياً بدأ النصَّ بما ظنّه استهلالاً، ولكنه يكون أعمق من ذلك، لأنّ غالب سيغيّر قناعةً رافقته مدة خمسين عاماً.
تحكي لنا الرواية قصة أربع شخصيات رئيسية: فوزان ومرعي المصري وسليم حقي والسيدة ميتسي، بالإضافة إلى مرور عايدة، زوجة سليم المريضة، وعلاقتها بكلّ أفعاله المحرِّكة الأولى لانطلاقة جميع أحداث النصّ، وأيضاً علاقتها في ما بعد بالفتى فوزان. يلتقي سليم المطرود من الشرطة بمرعي، باحثاً عن حلّ لكسب مالٍ سريع، بعدما فشلت محاولته خلال مراهنات قتال الديَكة، ومع هذين الرجلين، وحلمٍ/ وهم بالكسب السريع للمال، تبدأ الرحلة.
يراهن الرجلان على موافقة الستّ ميتسي بأن تشتري فرساً للمشاركة في السباقات التي كانت شائعة لدى فئة من عليّة القوم في تلك المرحلة من تاريخ مصر، فيذهبان إلى الطحاوية ويشتريان الفرس، يرافقهما الفتى فوزان ليحضر قطعاً ذهبية، بعدما رفض برجس، عمّ فوزان وصاحب الفرس، قبول العملة الورقية التي لم يكن يثق بها أهل الريف بعد. تكثر الأحداث وتتشابك، تخسر الفرس سباقاً ثم آخر، وتفوز بسباق ثمّ آخر، ما يعقّد الأحداث، وتأخذنا التفاصيل إلى علاقات الشخصيات وصراعاتها.
الوهم كان الأساس في تشكّل ملامح الشخصيات، وبالتالي حركتها داخل المكان والزمان، وهي: سليم بالكسب السريع، ووهم الحبّ لدى مرعي، ووهم الشفاء النفسي لدى ميتسي، أمّا فوزان، فقد كان أسير قرارات أصحاب هذه الأوهام، وعايدة المريضة، أسيرة وهمٍ واحد، هو وهم زوجها سليم، بأنه سيجد حلّاً سريعاً.
لقد قدّمت الرواية تفاصيل عن تلك المرحلة فيها من الجدّة والبراعة ما يعطي صاحبها ميزة الباحث الدقيق، الذي يتوخّى الحذر من أجل أن يُنتج نصّاً روائيّاً، لكن ما دام أنه لجأ إلى التاريخ، فلم يفوّت تفصيلاً إلا ووظّفه في خدمة عملية السرد والحوار، وتشكيل الشخصيات وتطوّرها، فحتى المسمّيات والألقاب، وأسماء المناطق، واللهجات المصرية المستخدمة، والكثير من التفصيلات الصغيرة، اعتنى بها كلّ العناية حتى لا تشوب نصّه هنات تاريخية أو اجتماعية.
وبالعودة إلى زوايا الرؤى، وهي ما أعطى هذا النصّ صفة النصّ السينمائي، ولكثرة تنوّع تلك الزوايا، نجد أحياناً أنفسنا داخل المكان خلال الوصف والحوار، فالحلول في المكان كان أساساً، والإشراف من علٍ والنظر نحو الأعلى، بالإضافة إلى كثير من موقعية الواصف، وخصوصاً أثناء وصف مجريات السباقات، كلها كانت أساساً في تميّز الرواية التي جعلت المتلقّي يبني العالم في مخيّلته بكلّ تفاصيله، بشكل أعمق وأكثر وضوحاً من أيّ نصّ روائي آخر قد يقرأه.
صنّف بعضهم العمل بأنّه رواية سينمائية


لم يدخل المرسي في قضايا سياسية كبيرة، أو بشكل أدقّ لم يجعل تلك القضايا تسيطر على نصّه، ذلك أنّه أراد لقضايا الهمّ الإنسانيّ أن تسيطر، وترك للوهم أن يكون المحرّك الأساسي، فيشارك المتلقي قلقه حول تعلّقنا بالوهم وما ينتج عنه، إلّا أنه لم يستطع الهروب، شأنه شأن معظم المبدعين العرب، فالسياسة وقضاياها لا يمكن الهروب منها، لأن بلادنا تعيش أزمات متلاحقة، ولكنها مرتبطة ومنشأها واحد، فسليم طُرِد من عمله بسبب موقفه الوطني، وكاد أن يخسر بسبب تعبيره عن رأيه أثناء اجتماع الخواجات، ولأنّ هذا الموقف متحكّم فيه من دون أن يدري، لم يستغلّ معارفه الجدد ليعود إلى وظيفته. وعبر نموذج سليم وموقفه، يأتي التساؤل: ما الذي كان يمنعه من استغلال هذا الموقف، ولماذا لم يستغلّه، ولماذا بقي الوهم متحكّماً فيه، لنربط هذا التساؤل بسؤال حول الوطن، فهل مواقفنا الوطنية مبنية على الوهم أيضاً؟
مأخذ على الرواية هو بعض المشاهد التي تظهر فيها شخصيات مصرية اعتدنا مشاهدتها في الأفلام، القديمة والحديثة، البلطجية والفتوات وأصحاب السوابق، فقد ظهروا في الرواية بشكل مبتذل ومكرّر، ولأنّ الحوارات كانت بالمحكية المصرية، فكنت تقرأ مشهداً لا بدّ من أنك شاهدته يوماً في فيلم مصريّ من أيام السبعينيات والثمانينيات، فالاستغناء عن هذه المشاهد كان سيُبعِد النصّ عن الابتذال هو بشكله العام بعيد كل البعد عنه. وبالحديث عن الحوارات باللهجة المصرية، فقد كانت نقطة قوّة لواقعية النصّ، رغم الخلاف الدائم حول دخول العامية النصوص الروائية.
«مقامرة على شرف الليدي ميتسي» رواية لروائي مجتهد، وكاتب باحث لا يرضى بالقليل من البحث ليشكّل عالم نصّه الروائي، ولأنه مجتهد، فقد اشتغل على نصّ بعد تجميع مادته. تعددت زوايا الرؤى، فشكّلت إيقاعاً سرديّاً تشكّل معه نصّ روائيّ يحمل جدّة وخصوصيّة، لمرحلة وحالات وشخوص سمعنا أو لم نسمع عنهم، ولكننا هنا سمعناهم بشكل مختلف.