تقول المحامية الفلسطينية نورا عريقات إنّه «لا يوجد نقص في المحامين الفلسطينيين المتمكّنين، وإنما هناك افتقار إلى حركة سياسية قوية ترفد دعواهم القانونية، وترشدها، وتكون قادرة على الاستفادة من المكاسب التكتيكية التي يحققونها». يبدو قول عريقات في إحدى مندرجاته كأنه خلاصة مضمون كتابها الصادر حديثاً عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» بعنوان «العدالة للبعض – القانون والقضية الفلسطينية»، ولا سيما في إشارتها النقيضة المتمثّلة في «أنّ العمل القانوني كان محورياً في مشروع إسرائيل التوسعي. لقد فهم القضاء الإسرائيلي والسلك الديبلوماسي والمستشارون القانونيون المدنيون والعسكريون تداخل القانون مع السياسة، واستفادوا» (ص260)، ولعلّ ما ذكرته عن المستشار القانوني للجيش الإسرائيلي يوئيل سينغر الذي أرسله إسحاق رابين إلى فريق التفاوض لتعزيز قناة أوسلو خير مثال، إذ كان سينغر عدوانياً جداً، و«أمطر ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية بما لا يقل عن 200 سؤال» (ص195). نستنتج تباعاً من سياق الصفحات كيف كانت مؤسسات المنظمة والقانون في خدمة مرض «الأنوية».

عريقات التي عالجت في كتابها مسألة «النضال الفلسطيني في سبيل الحرية، بسرد العلاقة بين القانون الدولي والسياسة خلال خمسة منعطفات تاريخية حاسمة ما بين عامَي 1917-2017، وحجّتها أن القانون الدولي هو مجرد أمر سياسي»، كشفت مسار سياسة «منظمة التحرير الفلسطينية» التي حقّقت الاعتراف بها بجهود مضنية وصولاً إلى صفة مراقب في الأمم المتحدة، لكنها أيضاً أخفقت وخسرت في التنازلات التي قدمتها في محادثات أوسلو والاتفاق الذي نجم عنه. تذكر المؤلّفة أنّه «في عام 1993 وقعت «منظمة التحرير الفلسطينية» إطار الحكم الذاتي الذي رفضته طوال خمسة عشر عاماً». كما أنّه «استجابة لمطالب إسرائيل التفاوضية، وافقت المنظّمة أيضاً على تعديل ميثاقها الوطني لإزالة الالتزام بالكفاح المسلح، كما أبطلت قرار سنة 1975 الذي رأى أنّ الصهيونية شكل من أشكال العنصرية. إضافة إلى هذه التنازلات، وافقت المنظمة على رغبة إسرائيل في استبعاد الإشارة إلى أي قانون أو معايير دولية، ولا يشمل ذلك القرار 242 فحسب، بل أيضاً القرارين رقم 181 و194، واتفاقية جنيف الرابعة بشأن الاحتلال، وجميع الإنجازات القانونية المميزة لمنظمة التحرير في الأمم المتحدة خلال السبعينيات». وتؤكد «كان هذا ثمن الدخول في دائرة نفوذ الولايات المتحدة» (ص202).
يتضمن الكتاب خمسة فصول (ترجمة صفاء كنج) ومقدمة وخاتمة وفهرساً. يقارب الفصل الأول «الشطب والإلغاء الاستعماري» من وعد بلفور، إلى ترسيخ الشطب والإلغاء في القانون والسياسة الدولييّن: الانتداب على فلسطين، وكيفية فرض إسرائيل نفسها بالقوة، وأحكام الطوارئ... فيما يتناول الفصل الثاني «الاحتلال الدائم» عبر ضم الأراضي «حيث أن قانون الاحتلال وفّر أساساً قانونياً إضافياً لإسرائيل لتزعم أنه في إمكانها حيازة أراضٍ لبناء مستوطنات مدنية، إنها الضرورة العسكرية» (ص107).
تستهلّ عريقات الفصل الثالث (الثوريون والبراغماتيون) بما قاله الراحل فايز صايغ عام 1965 بأنّ «شعار النظام الاستيطاني الصهيوني القائم على التفوق العرقي في فلسطين هو الإلغاء العرقي» و«هذا ما تمارسه إسرائيل اليوم بحق أهل غزة من تطهير عرقي وإبادة جماعية نظراً إلى عقيدتها الصهيونية/ التوراتية القائمة على إلغاء الآخر بالقتل والعنف». في هذا الفصل، تستعرض عريقات الجهد الإستراتيجي لمنظمة التحرير في الأمم المتحدة لإدراج الوضع القانوني للشعب الفلسطيني في المواثيق والمؤسسات الدولية، وبلوغه الذروة في السبعينيات من القرن الماضي، حين أسفر عن سلسلة إنجازات قانونية، وسلوك الديبلوماسية طريقاً لنيل الحقوق (خطاب عرفات في الأمم المتحدة في تشرين الأول/ أكتوبر 1974) والتنازلات اللاحقة التي أدّت إلى إضعاف قوة منظّمة التحرير، وخصوصاً بعد اجتياح لبنان عام 1982 وتشتيت قوة المنظمة وعرفات.
تخلّت طواعية عن القانون كإحدى أدواتها السياسية في النضال


«عملية أوسلو للسلام» هو عنوان الفصل الرابع الذي تكشف فيه عريقات بالمعلومات كيف عاثت «الأنوية» والجانب «الشخصاني» للرئيس عرفات، بإنجازات المنظمة وبحقوق الشعب الفلسطيني. تقول عن أوسلو: «حصلت المنظمة على اعتراف إسرائيل بوضعها القانوني من دون أي ضمانات بنيل الاستقلال». وفي هذا الفصل، تتوضّح قدرة الوفد الإسرائيلي على استخدام القانون، واستسلام الجانب الفلسطيني لأي طروحات، وسنورد هنا بعضاً منها لأن ما جرى في أوسلو أوصل القضية الفلسطينية إلى أقبح ممارسات السلطة حالياً ومنها:
نجاح إسرائيل في استخدام عملية «السلام» لإحكام سيطرتها على الضفة الغربية وقطاع غزة بخضوع فلسطيني (هذا ما أكده الأستاذ في جامعة حيفا وعضو وفد التفاوض ممثلاً رابين يائير هيرشفيلد بقوله بأنّ محادثات النروج التي سبقت أوسلو حافظت على جميع آليات السيطرة اللازمة لإسرائيل) ومخاوف عرفات من الوفد الذي ضم فيصل الحسيني وحنان عشراوي إلى واشنطن للتفاوض (تذكر أيضاً مخاوفه من نتائج انتفاضة الحجارة لغير مصلحة المنظمة) وسعيه إلى إجبار الوفد على التشدّد وإظهار مرونته من خلف الكواليس في الاتصالات مع الأميركي والوسطاء، وفتح قناة خلفية في النروج سبقها لقاء سري جمع أحمد قريع ويائير هيرشفيلد في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 1992 في لندن، وحضور المسؤول في المنظمة حسن عصفور مع أنه لا يجيد الإنكليزية وتراجع المنظمة، في غضون ثلاثة أشهر، عن قضايا رئيسية عدة كان الوفد الفلسطيني قد حارب بحزم من أجلها، وتبنّي وفد النروج في السرّ ما أخفاه عن وفد الوفد الفلسطيني في واشنطن. وبحسب هيرشفيلد، أجبر عرفات الوفد الفلسطيني على العودة إلى واشنطن للسماح باستمرار المحادثات عبر القناة الخلفية (وكان الوفد يرفض العودة مطالباً بعودة المبعدين الفلسطينيين من لبنان وكانوا 400 شخص من «حماس»)، وتوبيخ هارون ميلر (ممثل كلينتون في التفاوض) للوفد الفلسطيني، لكن الوفد لم يلن، لكن عرفات انفعل من الوفد وانتقل للتفاوض سراً إلى أوسلو. تتابع عريقات في كشف المزيد من المعلومات حول أوراق التفاوض ذاك ومنها: «تفاجأ رابين بمدى استعداد منظمة التحرير الفلسطينية للتنازل» فشعر رشيد الخالدي بالاشمئزاز، واستشاط حيدر عبد الشافي غضباً، وتخلّت منظمة التحرير طواعية عن القانون كإحدى أدواتها السياسية في النضال، وبصورة عامة تخلّت عن سياسة المقاومة. في حزيران (يونيو) 1994، دخل ياسر عرفات إلى قطاع غزة، وأصدر رابين تعليماته إلى الحكومة الفلسطينية باعتقال محمد الضيف، لكن وعد فلسطين كان وما زال وفقاً لما تختم عريقات.