يأتي كتاب «الجسد في مصر: من السياسة إلى الاستهلاك» (دار جسور للترجمة والنشر) للكاتب والباحث المصري أحمد عبد الحليم (1995)، ليكون شاهداً آخر على إصرار الكاتب على تتبّع الجسد في فضاءات مُختلفة. أحمد عبد الحليم، سجين سياسي سابق، أكَّد في جميع مقابلاته الصحافية المكتوبة والمرئية أن تجربة السجن هي التي ألهمته الكتابة عن الجسد سواء عبر نصوص أدبية أو بحثية. في عام 2021، أصدر رواية قصيرة بعنوان «أجساد راقصة» (مؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث)، وهو نص أدبي يتتبع فيه حركة الجسد داخل السجن. يصوّر حياة السجون بعيداً من الكلام، مكتفياً بعلاقة الجسد بالمساحة والعمران وتعليمات السلطة الخاصة وضبطها لحركات الجسد. وفي أواخر عام 2022، صدر له عن المؤسسة نفسها كتاب «من يمتلك حق الجسد: قراءة في الحياة السجنية»، وهو حتى الآن كتابه الأبرز من بين كتبه الأخرى، وهذا ربما، يعود إلى نوعية موضوعه، إذ تناول تمثلات الجسد وصوره داخل السجن في مصر عبر تتبّع الحياة المرئية داخل السجن، التي تحوي ممارسات عقابية، وتعذيبية، وإذلاليّة بحق السجناء، بحيث تتمكن السُلطة السجنيّة عبرها من هدم ذات وجسد السجين، وبنائِهما، عبر تمثلات وصور أُخرى، تدل على مفاهيم الخضوع والطاعة والسلب. وفي عام 2023، أصدر كتاباً آخر بعنوان «تمثلات المجتمع المصري: في الذات والجسد والهوية» (دار رياض الريس للكتب والنشر).

كان ذلك العمل بمثابة خروج الجسد ضمن كتابات أحمد عبد الحليم من داخل السجن إلى خارجه، أي إلى المُجتمع، فارتأى الاشتباك النظري والتحليلي، مع ما وراء وجود الجسد في وقتنا الحالي، أي منذ عام 2011، وفي فضاءات مُختلفة، مثل التقنية، وتطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلام، والسينما، والشارع، والمول في ظل مفاهيم الاستهلاك والفردانية والإنجاز، التي ترعاها المنظومة النيوليبرالية بدقة وامتياز.
هذه المرة، انتقل اشتغال أحمد عبد الحليم وبحثه من تجربة الجسد في السجن إلى المجتمع ليشتبك الكاتب مع السلطة السياسية وعلاقتها بالجسد. في «الجسد في مصر: من السياسة إلى الاستهلاك»، يحاول عبد الحليم البحث عن سردية تحكي من «تحت»، من الأسفل، عن السلطوية وأجساد المواطنين، عبر أخذه من السياسة والفكر والثقافة والمجتمع والسجن وسائط أو نظارات تبيح الرؤية عن كثب. جاء هذا البحث عبر إطلاق العنان للأصوات التي احتكت بالسلطة، أو بمعنى أدقّ من مارست عليهم السلطوية أفعالها وأثرها على أجسادهم عبر التعذيب، السجن، المراقبة، الإخضاع، الاستبعاد، النبذ والنفي.
إضافة إلى النظريات التحليلية، يضم الكتاب عشرات المقابلات مع شباب من أعمار مختلفة خاضوا تجارب السجن والنفي والعمل السياسي والحقوقي منذ عام 2011 حتى الآن. يصرّ عبد الحليم في أبحاثه على سماع صوت الآخرين، هؤلاء الذين لا يسمع صوتهم أحد في أوساط السياسة وحقوق الإنسان، فالكاتب لا يستند إلى نظريات بحثية فقط، بل يريد أن يحكي عن المهمّشين كونه واحداً منهم، يريد أن يعبّر عن هذا الصوت ويناقش مواضيع في السياسة والسجن والمجتمع بشكل بحثي وتحليلي، وأدبي في ما هو قادم. فالكاتب منشغل بالبحث عن سردية تخالف السرديات المسيطرة، سواء أكانت رسمية قادمة من السلطة أو حتى من سرديات أخرى تابعة لحركاتٍ ومنظمات تريد تهميش أصوات من وقعت عليهم ممارسات السلطة، أو بعباراته «نحاول رفض احتكار الروايات الرسمية، ونبحث ونفكر ونضع هذا النص مفتوحاً من قِبل الجميع للنقاش والنقد، حول إمكانية التفكير في الفلسفة والتاريخ بين السُلطة وأجساد المواطنين في مصر».
في «الجسد في مصر: من السياسة إلى الاستهلاك»، ينتقل أحمد عبد الحليم من محورٍ إلى آخر ومن فصلٍ إلى آخر بسلاسة وترابط قويّين، واضعاً النقطة الأخيرة عند نهاية كل فصلٍ ومحور. متأثراً بالفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين، يناقش في الفصل الأول «السياسة في الجسد» علاقة السياسة بالجسد والاستثناء بوصفه مفهوماً أساسياً. سنراه يقطّع الفصل وينظمه وفقاً لثلاثة محاور: الاستثناء في الجسد، الاستثناء في القمع، تمثلات ما بعد الاستثناء، من دون أن ننسى الاستهلال حيث قام بتمهيد يبحث عبره عن تاريخيّة العلاقة بين السلطة وأجساد مواطنيها عبر تاريخ الدولة المصرية الحديث والمعاصر. إنّ الجسد هو رقم، وسط أجساد هي بدورها أرقام أخرى، في تشابه كبير في فلسفة تعامل السُلطة السِّجنّية حيال أجساد سجنائها حيث تستفيد منهم قدر الإمكان كونهم أجساداً خاضعة لها. من هنا، ينطلق عبد الحليم من كيفية هذا التعاطي تاريخياً وفلسفياً وممارساتياً، مع التركيز على سلطة ما بعد الثالث من تموز (يوليو)، بما أنّ سياستها («سيادتها» بوصف المفكر الإيطالي جورجو أغامبين) جمعت بين إدارة الأجساد كلها، بل قسَّمها إلى أربعة أنماط جسدية: معارضة، وتابعة، ومؤيدة، وفائِضة. وعزلت الجسد السياسي المعارض عبر مُخاصمته من خلال قتله أو احتجازه أو ابتلاعه كلّية، وأهّلَت التابع لها لاستخدامه في فرض الهيمنة، وأرهَبت المؤيد لبقائه على التأييد أو على الأقل الحياد، وحذرت الفائض من زيادته. يوضح أحمد عبد الحليم ماهية التمييز في القمع كما الاستثناء، ذلك الذي فعّلته السلطة بحق فئات متباينة من المجتمع، مستندة إلى تطويع التشريع، وقمع الاحتجاج الحركي عبر القوى الإسلامية وغير الإسلامية، فيرصده ويتتبع تفصيلاته. عبر تفعيل حالة استثناء على الجسد السياسي، قامت سياسة السلطة، أي السُلطوية، بقتله وإخفائه وسجنه، ليصل إلى تمثّلات ما بعد هذا الاستثناء، تحديداً ما بعد السجن، مجيباً عن أسئلة على شاكلة: كيف أصبح خروج الأجساد المصرية «المعارضة» من السجن أصعب من دخولها؟ وعن المُنعتقين منه، كيف دخلوا في فلك «الأمننة» التي وظّفتها السلطة ورعتها بدقّة بهدف إخضاع الأجساد وتأميم أي فكر أو ممارسة قد تصدر منهما.
يضمّ العمل مقابلات مع شباب خاضوا تجارب السجن والنفي والنضال منذ عام 2011


يغوص أحمد عبد الحليم في الفصل الثاني في علاقة السياسة بالثقافة، إذ يناقش الهوية التائهة للسلطة، فيما يبرهن أن سلطة ما بعد الثالث من تموز لا تعتني أو تمثل هوية مستقلة بحدّ ذاتها، فلا هي امتداد ناصري عروبي قومي، ولا ساداتيّ أو مباركاتيّ ولا حتى فرعوني، بل تأخذ ما يناسبها من كل السرديات المصرية السلطوية السابقة، لكن هويتها الأساسية تتمثل في الاستثناء، أيديولوجية وعقلية وسردية وممارسة تبرر سُلطويتها، ثم بقائها وهيمنتها على الحكم. ثم يناقش عبد الحليم تمثّلات هذا الاستثناء، في تأميم السردية الثقافية «غير الحركية» بالمعنى الاحتجاجي المباشر، بما تشمل فضاءات عدة، فنية تخص الدراما تحديداً، كما تعليمية وتربويّة كالمدارس الحكومية وغير الحكومية. من هنا يعرج على السياسة في الاستهلاك راصداً التجلّيات المُباشرة التي أحدثتها سلطة ما بعد الثالث من تموز، التي طالت مئات الآلاف من المصريين المُعارضين، وخاصة الشباب منهم. إذ يسرد تحولات المشاعر والأفكار داخل سنوات السجن، ثم ينطلق إلى خارج السجن بل خارج مصر (المنفى)، كي يسلّط الضوء على جزء من الشباب، أي المنتمين إلى الإخوان المُسلمين، ويشرح كيف كانت تجلّيات المرحلة عليهم. ثم ننتقل من الخاص إلى العام، لنرى اتجاهات ومسارات الشباب الخارج من الاستثناء ومن السياسة كُلّية، سواء من بقيَ منهم داخل مصر أو من خرج منها. يعرفنا الكاتب إلى حالة الاستثناء في المعارضة، في ما يخص فلسفة السلطة في التعامل مع المُعارضة، الإسلاميين كخصوم، ومستقبلهم في الحياة الاجتماعية والسياسية، كما مستقبلهم داخل سجون السيسي، وإلى غيرهم كمُعارضة من التيارات غير الإسلامية، التي يمكن الحديث معها والعفو عنها كما التلاعب بها، لنرى تمثلات ما بعد مشهد الحوار الوطني، التي أطلقته السُلطة مع المعارضة المدنية في أواخر شهر نيسان (أبريل) 2022. بعد ذلك، يتجه عبد الحليم، إلى كشف تمظهرات الاستهلاك وصعوده، ومولات السياسة وفكرها وتنظيمها وممارساتها، بل تحوّل السياسة ذاتها إلى سياسة استهلاكية. هنا يضرب المثل، بالمعارضة المصرية، وخصوصاً المقيمة خارج مصر، ويحاول فهم كيف تحولت إلى معارضة وظيفية استهلاكية من حيث التنظيم والفكر والممارسة، لا معارضة ثقافية صلبة إصلاحية أو ثورية، شارحاً في الوقت عينه، مفهوم الذات السياسية وتحولاتها من الواقعي إلى الافتراضي، وتجلّيات هذا التحول الذي طرأ على ماهية السياسة في المشهد المصري الراهن ومستقبله، في نقاش حول كيفية انتقال الجسد من كونه جسداً سياسيّاً إلى جسد استهلاكيٍّ.