أيمكننا أن نوغل في ظلام الأمسبمصابيح الغد؟
رأيت أسلحتهم وخوف أمي، ذلك المشهد من طفولتي، يدقُّ بابَ ذاكرتي، رجل يرمي الأوراق في كل مكان، وقد عاد عمي للتو من العمل، لم ينزع عنه ثيابه بعد، تمددَ على الأرض، ثمّ أسند قدميه على خزانة الملابس، قرب الباب؛ الباب الذي سأعرف حكايته فيما بعد، أغلق ولم يخلع كنوع من ردة الفعل، عندما شاهدت الأسلحة، كانت أمي ترفع غطاء التنور بيدها اليمنى، مستعدة لإخراج الخبزة الناضجة من النار. وأخي الصغير على السطح يلاعبه والدي، صار لوحده على السطح، عندما دفعوا والدي إلى الأسفل إلى الطابق الأرضي، توسّلهم أن يحمله معه، وفي النهاية هو طوع أمرهم. يُقال، إنّ أحدهم حمله من الطابق الأول إلينا فيما بعد، قبل أن يغلقوا الباب.
■ ■ ■

مضى ذلك اليوم لكن هل مضى حقاً؟
جدتي تبكي بحرقة، هذا البكاء الذي لا يصاحبه أي صراخ، كلما أخذتها الجرأة ليعلو عويلها، كمّم أحدهم فمها بيده، وأسرع الجميع في تنبيهها من ردة فعلهم، قد يكونوا هنا، أقرب مما نظن أو تظن أو تظنون، لا أتعجب، يفعل الخوف الكثير من الأشياء ويهب الوجوه ألواناً مغايرةً أيضاً.
ماذا عن الغد؟ كيف سنخرج؟
لم يتجرأ الجيران والأقارب على الحضور من أجل مواساتنا أو الوقوف معنا ولو بشكل عرضيٍ عابر، ثمة شخص واحد، فتح الباب المقفل، بقي قليلاً وغادر، يبدو أن الأمر قد تم بإذن منهم، حتى نتعرف إلى مشاعر الخوف من السجن، فما بالك بمن يسجن في منزله، لماذا لم يضرب أياً من أفراد عائلتي الباب بقوة؟ لم أفهم ذلك وقتها ولعلّي لم أفهمه الآن.

تفصيل من غلاف الرواية

- هل حدث كل هذا يا أبي؟ (قال أخي الصغير)
- لذلك عليكم الحذر إن سألكم أي شخص في الشارع أو المدرسة إياكم، إياكم، سنموت ميتة سيئة. (قال أبي).
نظرت إلى السماء وفي رأسي صورة أخرى، كيف لهم أن يحقدوا علينا هذا الحقد كله؟ ولماذا تحدث والدي عن المظلومية، معتبراً الأمر من البديهيات. رفعت الغطاء الخفيف بواسط قدمي، غطيت وجهي، محاولاً العثور على إجابة، بتردد طفل حائر، يستمد قوته من أبطال قصص الأطفال، طفل يعرف أن والده لا ينام بشكل طبيعي مخافة تكرار الحدث نفسه.
لماذا أخبرنا بهذه الأحداث كلها؟ لماذا لم نُتْرَكْ هكذا، نعرف ما نتذكره فقط؟ كنا نتساءل أنا وأخي عن الأمر، كان من المستحيل تجاوز الخوف وعزله، أو لنقل أنه كان مجبراً على ذكر كل شيء حتى نشاركه الخوف على أنفسنا، ربما حلم حلماً، فخيّلَ له مصيرنا بين يديه، لا سبب لأن نعرف أشياء لا يعرفونها من هم بعمرنا، هذا يعني أننا سنعيش مثل من يقطع البصل ويحلق ببراءة السكين.
ومن يمسح دموعنا لم يكن يدري ما يكفينا من الحياة.
كل شيء في الحياة يسخر من وجودنا، من حرصنا على كل شيء قابل للضياع في أي لحظة، خوف، ولا مبالاة في الآن نفسه، فبعد فقدان أبواب الرزق، تبدأ نزعة الموت، للتخلّص من الهم والكدر.
■ ■ ■

دخلوا إلى الصف، وبطريقة لطيفة ومحبّبة،
قال: هل أعدمنا والدك؟
تفحص وجوهنا، وهو يرفع نظره من صديقنا.
أكمل قائلاً: عمك أو خالك
وقبل أن ينتهي من كلامه، رفع طالب يده، خفت من جرأته وعدم معرفته، قلت في سري (كيف له أن يفعل ذلك، ألم يحذره أهله)
سأله: لماذا أعدم عمك؟
أجاب: لم يكن عمي، بل أبي مات في حرب إيران.
ابتسم
قال: تقصد أنه استشهد في الحرب.
أجاب: نعم.
قال: أنت يا بطل.
وجه نظره إلي، عرفت من نظراته، من يقصد، ليس في الصف أحد آخر حدث له ما حدث لعائلتي.
■ ■ ■

عندما غادروا، خلقت الأسباب من أجل الهرب إلى البيت، من دون أن يشعر أي شخص وبأي طريقة، خفت عودتهم، شعرت بعداوتهم لي. الدرس الأخير بدأ، تميّز وقته باللانهاية، شعرت بالخطر أكثر مما مضى، ما إن انتهى الدرس، حتى غادرت من دون انتظار الأصدقاء الذين أغادر رفقتهم، عبرت الشارع مسرعاً، وسرت في الدرب الذي يؤدي إلى بيتنا، كنت كمن فقد بوصلته في جولة مهمة من جولات حياته التاريخية، أسأل نفسي، أين صار باب بيتنا؟ ما إن وصلت، ولأطرق الباب كنت بحاجة إلى جهد جبار، ولمساعدة نفسي على التماسك، تنفّست كما كانت تفعل معلمة العلوم، وما إن دخلت حتى شعرت بالأمان، ولا أعرف قصدي من ذلك! كنت آمل أني في أمان، أو تعزّز ذلك في نفسي.
انتظرت والدي، قالت أمي: سيصل بعد ساعة.
■ ■ ■

- وهل سألك أي منهم عن اسمك؟ (قال والدي)
- لا.
■ ■ ■

في ساعة متأخرة من الليل، طرق الباب بقوة، فزعنا، قالت جدتي: لن نفتح الباب.
بعد ذلك سمعنا صراخ جدتي، كانت فرصتها لتنتقم منهم، لكنها تنتقم وهي خائفة، وهي تعرف أنه ليس عليها أن تتعدى أكثر من هذا الحد. أغلق الباب بقوة.
قالت لها أمي: ماذا يريدون هذه المرة؟
ردّتْ جدتي: يريدون ابنك.
صرخت أمي، ولطمت وجهها بقوة، قائلة: ماذا يريدون من هذا الطفل يا الله؟
طرق الباب مرة أخرى، همّتْ جدتي بالخروج وهي ترفع نعلها، سحبتها أمي من يدها، وفتحت الباب، قال الرجل الواقف عند الباب: ليأت ابنك هذه الليلة إلى الفرقة الحزبية ومعه غطاء وفراش.
قالت أمي: ألا تستحي على نفسك، لماذا لا تطلب ذلك من ابنك، ما زال ابني طفلاً، حتى إنه يخاف الدخول إلى الحمام لوحده في الليل، وتريد منه أن يؤدي واجباً في فرقتكم الحزبية؟
غادر، وهو يتوعد بحرق البيت ومن فيه، كنت أقف خلف الباب، وعمتي بجانبي، لطمت خدها، وأخذت تصرخ قائلة: ساعة السودة علينا. خفت أكثر، شعرت أنّ كل ما حصل بسببي، كنت أتمنى الموت، كنت أريد حمل فراشي وغطائي وأن أذهب معه، كنت أريد فعل أي شيء يقلل من شعوري بالذنب، ويجعل عائلتي مطمئنة، تجسد لي الخوف ككائن مثلنا، بمواصفات شبح، وها قد جاءنا بصورة ذلك الرجل الذي قلب يومنا رأساً على عقب، تقرّبت مني أمي، أشعر برجفة جسدها، ويدها التي ضمتني، عندما فتح الباب ودخل والدي، شاهد الوجوه الكئيبة ودموع أمي، سأل ما المشكلة؟ ماذا حدث؟
قالت جدتي: كنت سأضربه بالمداس، ابن الكلب.
قال: تضربين من؟
سردت أمي ما حدث بالتفصيل، كانت ترتعش وهي تتحدث، حتى إن أنفاسها بدت متقطعة، راقبت نظرات والدي لها، وفكرت في ردة فعله، وأقول في سري (سيضربني في أي لحظة).
بعد أن هدأت الأمور، وتأكد كل شخص في البيت بأن الأمر خارج عن نطاق قدرته، انعزل كل واحد منا على جهة، من دون أي حديث، أخذ الضوء يخفت بشكل تدريجي، سمعت صوت جدتي، تنادي عمتي من أجل ملء الفانوس بالنفط، وكأنها تريد إعادة الروح إلى البيت، قالت أمي وهي تتحدث بصوت هامس: كيف سيذهب إلى المدرسة غداً؟
ليجيبها والدي: وهل سيغيب إلى الأبد؟
قالت: هل نتركه لمصيره؟
غضب والدي، وطلب من أمي السكوت. كنت تحت الغطاء أسمع حديثهما، كما سمعتهما من قبل وهما يمارسان الجنس.
في الصباح، استيقظت قبل أمي، بقيت ممداً على الفراش، لم أكن متأكداً من قرارهما بعد، ولا هما حتى، شعرت أن لهما رغبة في ترك المدرسة ربما بشكل نهائي، كان ذلك مجرد شعور، لكن عندما استيقظ والدي، وقبل أن تطلب أمي مني النهوض، تأكد حدسي، عندما اقترحت على والدي أن أترك المدرسة، رفض رفضاً قاطعاً، بعدها، نادتني أمي، رفعت رأسي وكأني استيقظت تواً على صوتها. غسلت وجهي بالماء البارد، وتمضمضت بالملح وبصقت في القِدْر الكبير الموضوع على الأرض، لم تتقزز أمي يوماً من دفع كل هذا الماء القذر.
قبل أن يهم بالخروج، قال والدي: إن تم سؤالك عن أي شيء، قل لهم: لست في المدرسة التي يريدون مني أن أنتظم مع فرقتها الحزبية. هل فهمت؟
قلت: نعم. ورددت الكلام في سري مئة مرة، وقبل أن أهمَّ بالخروج.
قالت: هل تتذكر ما قاله والدك؟
أجبتها: بالطبع يا أمي.
رغم خوفي، كنت أتصنع الشجاعة، ليمضي الوقت فقط، من دون أن أهتم لأي شيء، لا أريد أن يتكرر حزن اليوم السابق. لا أعرف لماذا اعتقدت أن عذر والدي مقبول؟ لكنه على كل حال عذر يمكنني من الإجابة.

(٭) فصل من رواية بالعنوان نفسه، صدرت حديثا ًعن «دار خطوط وظِلال» في عَمَّان.
(**): بغداد