1

البارحة، سهرتُ في انتظارهم حتى الفجر.
لم يأتوا.
لو جاؤوا لَسمعتُ أصواتَهم ووقْعَ خطاهم على السلالم.
لو جاؤوا لَكَسرُوا البابَ واقتحموا عليّ الشقة.
لكنهم لم يأتوا.

2


الليلة أيضاً سأنتظر.
الشقة موحشة منذ اختفاء سارَة. وهذه الوحدة لا تُحتمل.
الجريدة ملقاة على السرير. صُورَتُها بالألوان على الصفحة الأولى. صورةُ سارَة. الجريدة تزعم أننا كنا زوجين سعيدين، قبل الواقعة. لماذا تَكذب الجرائد؟
يوم ذهبتُ إلى شقة سارَة أوّلَ مرة، سألتُها عن اسم القطة السوداء التي تعيش معها في تلك الشقة. كان هناك بريق غريب في نظراتها. في نظرات سارَة أقصد. نظراتُ القطة أيضاً كانت غريبة. وأنا كنت ألهث، بسبب السلالم. الشقة كانت في الطبقة الخامسة، ولم يكن هناك مصعد. مع تكرار الزيارات، تعودتُ تدريجياً على صعود الطبقات الخمس. لم أعد ألهث، رغم إدماني التدخين.


أخبرتني سارة أنها قررت العيش وحدها في شقتها تلك، رغم معارضة إخوتها. لقد كانت مصمّمة على ذلك، لأنها لم تعد تطيق الجو المشحون في بيت الأسرة. أخوها الأكبر هددها بالقتل، إن هي انتقلت للعيش وحدها، لكنها لم تكترث للأمر. كانت مستقلة عنهم مادياً، بفضل عملها في الإدارة، وتستطيع العيش بمبعدة عنهم.
بعد أشهر قلائل على زيارتي الأولى لشقتها، تقدمت لخطبتها. ورغم عملي البسيط (مصحّح في إحدى دور النشر)، لم يعترض أحد من أسرتها على زواجنا. حتى أخوها الأكبر الذي هددها سابقاً بالقتل، لم يمانع. لم يحضر ولكنه لم يعلن عن رفضه. هكذا أقمنا حفلاً عائلياً بسيطاً وأصبحنا زوجين. انتقلَت سارَة لتقيم معي هنا في الطبقة الثانية، في شارع نجيب محفوظ. جاءت بقطتها السوداء وصارت تُنيّمُها معنا في السرير. أنا لا أكره القطط، لكنني أكره قطة سارة بالذات. وهي تبادلني الشعور نفسه. ذلك واضح من نظراتها الخبيثة ومن المواء الغريب الذي تُرسله كلما اقتربتُ منها أو اقتربَت مني. رغم ذلك، تحملتُها على مضض. تحملتُ أشياء أخرى كثيرة على مضض. ثم ساءت الأمور تدريجياً. ثم حَدَث ما حدث. كيف تجرؤ على ضربي، صرخَت سارة، كيف تفعل هذا، أيها الوغد؟ كنا عندئذ في غرفة النوم. كنت أبحث عن كتاب «حياة ماتا هاري» الذي اشتريتُه بالأمس من الجوطية. كتاب أنيق، صغير الحجم، وعلى غلافه صورة بديعة بالأبيض والأسود للجاسوسة ماتا هاري، بجسدها الفاتن، وهي شبه عارية، ينبعث من نظراتها سحرٌ لا يوصَف. ولكن الكتاب اختفى من مكانه، فوق طاولة النوم، وأنا أبحث عنه بلهفة، والقطة لا تتوقف عن إزعاجي.
وفي لحظة غضب، عاجلْتُها بركلة قوية، فانْقَذَفَت بعيداً إلى أقصى الغرفة. وعندئذ هاجت سارة. صارت امرأةً أخرى. كان شَعرها محلولاً مثل شعور الغجريات في السينما. لماذا تَضرب قطة بريئة؟ قالت لي. ثم أخذَت تشتمني بكلمات نابية، من قاموسها الخاص، الذي تختزنه لمثل هذه اللحظات، وأنا فقدتُ السيطرة على نفسي فسدّدتُ لها صفعةً قوية. سدّدتُها باليد اليسرى على خدها الأيسر، فأطلقَت صرخةً لم أسمع مثلها من قبل. كأنما أصابتها رصاصة. القطة بدأت تطوف حولي وهي في حالة هستيرية. ثم رأيتُها تتهيأ للانقضاض عليّ. أتحدث عن سارة طبعاً. كانت قد ابتعدت عني قليلاً، وشرعَت تستجمع كلَّ قوتها، كأنما تستعد للهجوم. أنا زوجك يا سارة، أنا رجُلُك، هل نسيتِ هذا؟ أنتَ لست رجلاً، قالت.
كنا نحن الثلاثة في غرفة النوم، والوقتُ منتصف الليل. تضرب قطة بريئة، ثم تصفعني بهذه الوحشية، وكل هذا بسبب كتاب لم تجده في مكانه؟ كتاب عن عاهرة، باعت وطنَها بالمال. في تلك اللحظة، قررتُ أن أتمدد على بطني وأن أُدخِلَ رأسي تحت السرير لأبحث هناك عن الكتاب. وسمعتُها عندئذ تصرخ بصوتها الحادّ: أنتم الرجال كلكم مولعون بالعاهرات وبالنساء الخائنات. لكنني لم أقل شيئاً. فضّلتُ أن أبقى في وضعيتي تلك، متمدداً على بطني، ورأسي تحت السرير، ريثما تهدأ سارة وتهدأ القطة وأهدأ أنا.

3


قررتُ، بعد زوال العاصفة، أن أقضيَ ليلتي تلك فوق الكنبة القديمة، في غرفة الجلوس، وأن أترك سارة مع قطتها في غرفة النوم.
نمتُ نوماً متقطعاً، لكنني رأيتُ مع ذلك حلماً غريباً. كنا، أنا وسارة، نتفرج على مزاد علني في خلاء مقفر. كان عرش الملكة بلقيس هو المعروض للبيع في ذلك المزاد. فجأةً، شرعَت سارة تستعطف أحد الحراس:
- من فضلك، أريد أن أجلس قليلاً على عرش بلقيس!
لكن الحارس منعها من الاقتراب.
شيئاً فشيئاً، لم تعد سارة هي سارة. لقد بدأت تتخذ تدريجياً هيئةَ الجاسوسة ماتا هاري، وعندما اكتمل شكلها الجديد، أذنَ لها المسؤولون عن المزاد بالجلوس على ذلك العرش.
ورأيتُ عدداً كبيراً من الباباراتزي يلتقطون لها صوراً وهي على عرش بلقيس، وبجانبها قطتها السوداء.
ثم جاء الجنود يحملون بنادقهم على أكتافهم، وأنزلوا الجاسوسة من العرش، وبدؤوا يجرجرونها باتجاه ساحة الإعدام القريبة. كانت تنتفض وتحاول أن تعود إلى صورتها الأولى، حتى يقتنع الجنود أنها سارة وليست ماتا هاري، لكن من دون جدوى. وعندما أيقنَت أنها لن تستعيد مظهرها الحقيقيّ، ولن تنجو من رصاص كتيبة الإعدام، شرعَت تستعطفني بنظراتها وبحركات يديها، وتقوم بإشارات فهمتُ منها أنها توصيني خيراً بالقطة السوداء. تلك القطة التي لم تبرح مكانها على العرش، كأنها هي بلقيس الحقيقية!

4


في اليوم التالي، بعد عودتي من العمل، لم أجد لهما أثراً في الشقة. لا سارة ولا قطتها السوداء. في البداية، ظننتُ أنها تركت البيت غاضبة ومضت إلى بيت أسرتها. لكنها لم تكن هناك. حاولت الاتصال بها هاتفياً لكن من دون جدوى. أخبرتُ إخوتها بالأمر. أما الأب المصاب بمرض آلزهايمر، فما عاد يعرف من هي سارة. هكذا بدأنا رحلة البحث عن الزوجة المختفية. بحثنا عنها أياماً، أنا وإخوتها الثلاثة. بحثنا في كل مكان. زملاؤها في العمل أخبرونا أنها غابت بشكل مفاجئ، من دون أن تتصل بأحد منهم. لم يكن ذلك من عادتها. سألنا عنها صديقاتها المقربات. بحثنا في المستشفيات. في أقسام الشرطة وحتى في مستودعات الأموات، من دون جدوى.
في اليوم الرابع، جاء رجال الشرطة إلى شقتي. فتّشوها عن آخرها. قلبوها رأساً على عقب، ولم يجدوا شيئاً. جاؤوا بتلك الآلة التي تكشف قطرات الدم على الأرضية، حتى لو كان ذلك الدم مغسولاً بعناية. لم يجدوا شيئاً.
أخذوا مني هاتفي المحمول ودققوا في جميع المكالمات التي أجريتُها والخطابات القصيرة التي أرسلتها أو تلقيتها. استنطقوني ثلاثة أيام متتالية، من دون أن يتخذوا قراراً باعتقالي. أقضي نهاري في المخفر وأعود إلى شقتي في الليل. سألوني عن كل تفاصيل حياتي منذ طفولتي الأولى، ثم انتقلوا إلى علاقتي بسارة. طرحوا عليّ أسئلة دقيقة. في النهاية، قال لي رئيس الشرطة:
- بإمكانك الآن أن تمضي لحال سبيلك.
لكن سارة لم يظهر لها أثر. كأن الأرض ابتلعتها. ثم بدأت الجرائد تتحدث عن الاختفاء الغريب. الجرائد تكذب. تزعم أن الشكوك تحوم حول زوج المختفية. وإخوة سارة صدقوا تلك الأكاذيب. الأغبياء الثلاثة. اقتنعوا شيئاً فشيئاً أنني قتلتها وأخفيت جثتها في مكان ما. أقسموا أن ينتقموا مني.
البارحة، سهرتُ في انتظارهم، في شقتي. سهرت حتى الفجر.
لكنهم لم يأتوا.

* فصل من رواية للكاتب تصدر قريباً
** الدار البيضاء/ المغرب