خالد صاغيّةيصعب بعد ما جرى في بيروت والجبل، ثمّ في الدوحة، أن نتخيّل حياةً سياسيّة في لبنان. أثبتت هذه البلاد الصغيرة وغير المنظّمة كم أنّها على حق... أثبتت كم هي عصيّة على التغيير. مع قليل من الماكياج، ها نحن نعود إلى نقطة الصفر، إلى ما بعد اتّفاق الطائف، بقليل. بعد الحريريّة ـــــ1، والحريريّة ـــــ2، سندخل حكومة الحريريّة ـــــ3. لن تواجه الطروحات الاقتصاديّة ـــــ الاجتماعيّة أيّ عوائق (حتّى لو فارقَنا معالي سامي حدّاد، لا بدّ أن يحمل أطروحاته التنويريّة سامي حدّاد آخر في الحكومة المقبلة). أمّا العوائق السياسيّة، فسيتولّاها الثلث المعطّل أو ما سيشبهه بعد الانتخابات النيابيّة المقبلة، إذا ما جرت محاولات المسّ بالقضايا السياديّة. فالثلث المعطّل لا يعطّل أصلاً، وفقاً للدستور، إلا هذا النوع من القضايا. ويخطئ من يعتقد أنّ أحداً ما سيفتح معارك جانبيّة لتفاصيل «ثانويّة» من نوع الحدّ الأدنى للأجور، أو قضم شركة «سوليدير» لقطعة أرض من هنا ومبنى من هناك، وستتّسع عمليّات الخصخصة لتنفيعات تطال الأطراف كافّة، تعبيراً عن رسوخ الوحدة الوطنيّة وتصميم التيارات السياسية على تنفيذ اتفاق الدوحة، بنداً بنداً.
لمزيد من الماكياج أيضاً، سنشهد ما شهدناه مع بداية التسعينيات. مجموعات يساريّة ومدنيّة صغيرة سيبدأ صوتها بالارتفاع في الجامعات وبين الجمعيّات غير الحكوميّة. ستتحدّث تارةً عن العدالة الاجتماعيّة، وطوراً عن الزواج المدني الاختياري. ستكون ابتسامات صفراء بالمرصاد، وكذلك قوى مكافحة الشغب. فلن يتهاون الرئيس الجديد مع المسّ بالأمن وهيبة الدولة، وخصوصاً أنّه بطل معركة نهر البارد المظفّرة. وسيُسهم قمع تظاهرة من هنا، واعتصام من هناك، بتعزيز صورته رئيساً قويّاً ـــــ ولو بثلاثة وزراء ـــــ وهي صورة بدأت تنتشر على جدران المدينة وزجاج سيّاراتها.
لا يملك المرء، عند هذه المشاهدات، إلا استذكار كرنفالات الصور وتبييض الأوجه والسجلات لدى انتخاب العماد إميل لحّود رئيساً. أطفال وشباب ونساء وشيوخ رفعوا كلّهم صور العماد الذي جاء آنذاك حاملاً خطاباً إصلاحيّاً: الحدّ من آثام النيوليبرالية التي جسّدها رفيق الحريري في لبنان، واستعادة قدر من السيادة من القبضة السوريّة.
نهاية عهد إميل لحّود معروفة. ما زلنا على أبواب عهد ميشال سليمان، وجلّ ما نعرفه أنّنا نرى اليوم المشاهد عينها، من دون حتّى ادّعاء خطاب إصلاحيّ. وما الحاجة إلى خطاب كهذا، ما دامت المعارضة التي تمكّنت من فعل ما فعلته، لم تدّعِ يوماً أنّها تحمل مشروعاً تغييريّاً، رغم أنّ ثمّة من حمّلها آماله وأحلامه الخاصّة. كانت أولويّاتها واضحةً، وتحقّق لها ما أرادت في اتّفاق الدوحة. ادّعاءات الموالاة كانت مختلفة. لكنّها ادّعاءات كانت أقرب إلى المزاح، والوقائع بدَتْ واضحة لمن كانت له أذنان سامعتان.
الشعور بالخيبة لا يطال الذين بنوا قصوراً من رمال الموالاة والمعارضة وحدهم. فالخيبة لا بدّ أن تطال الجميع حين يتأمّل المرء في صعوبة صعود قوى سياسيّة أخرى، وخصوصاً حين تكون القوى الحاليّة هي من تصوغ قانون الانتخاب، وهي من تتحكّم بتقسيمات الزواريب وبتحديد حيّز التوافقات وحيّز المعارك الوهميّة.
كان الأجدى بمن يحتفل اليوم أن يتذكّر أنّ عاماً كاملاً مرّ على تدمير مخيّم نهر البارد، وأنّ سكان المخيّم لم يعودوا إلى منازلهم بعد. هل هي الصدفة وحدها التي أوصلت العماد ميشال سليمان إلى كرسيّ رئاسة الجمهوريّة في الذكرى السنويّة الأولى لنكبة البارد؟