أنسي الحاج
ـــ أين ترقد في الليل يا «تيمون»؟
ـــ تحت ما هو أعلى منّي.
شكسبير


يشتغل المنجّم، الطبيب الخيميائي المنجّم، لحساب الملكة، ومِن وراء ظهرها يشتغل أيضاً للخادمات والصعلوكات.
يستخرج الملكةَ من كل واحدة، يبرّق عيونهنّ بمفاتن التبصير، يبقّع أصابعهنّ البيضاء بمخمل وردات القَدَر.
والتبصير يمارسه من قهوة عيونهنّ. وليس القَدَر غيرَ وقع أقدامهنّ على نصف ظلمة بلاط القصر.
لا شأن لنا بالخطباء. بالحرب وهدنتها. نحن نرقد تحت ما هو أعلى منّا، نرقد أو نركض. ولا نعرف أعلى منا غير الفراع. الأزرق، وفِرَق الريح الخليعة. النجوم المدمنة وكواكب التلصص على حياتنا. مَن ذا يهدّدنا وقد شبَبْنا على الموت؟
عن أيّ بلد يتحدثون وقد فقدنا جميع الأوطان؟

يتضايق بعضهم مما يعتبره مبالغة في امتداح الجمال النسائي. «وهل هناك امرأة بهذه الصفات!؟».
بديهيّ أن الحياة ليست دائماً تلك اللحظات الصاعقة، لكنّ الأمل هو أن تصبح كذلك. هل عدم كون جميع النساء على قدْر واحد من الخَلْب يوجب التسليم للبشاعة؟ جمال امرأة واحدة يتشفّع بعالم.
كون الحياة أمضّ من المواقف الرومنتيكية لا يقلّل من روعة الانخطاف عندما يحصل. وثمة حيوات مؤلّفة كلّها من تلك الرعشات.
أشقى النساء هنّ اللواتي يرمين جمالهنّ لمن لا يتعرّف على الجمال.

كتب فرويد إلى تلميذته ماري بونابرت: «السؤال الأكبر الذي بقي بلا جواب، والذي أنا نفسي عجزت عن اكتشاف جوابه رغم كوني أمضيت ثلاثين عاماً في دراسة النفس النسائية، السؤال الأكبر هو: ما الذي تريده المرأة؟».
وفي موضع آخر سمّاها «القارة السوداء». سؤال يعاد طرحه كلّما انْسَكَنَ رجل بوجه امرأة. ساخرون أجابوا: المرأة سفانكس بلا لغز، أو إنها عقاب للرجل على كونه لم يتحمّل البقاء وحيداً. قائمة التهكم لا تنتهي، بينها، مثلاً، أقوال مأثورة من نوع:
  • المغرم هاذٍ يقف على رأس قائمة الأغبياء.
  • منتهى ملذّات الحبّ الأذى وأرفع تجلّياته سوء التفاهم (وسوء الفهم).
  • لو أبصر الرجال ما تحت بَشَرة النساء لما وجدوا غير بواعث على القرف، فلَسْنَ إلا أكياسَ نفايات.
  • هل أنت مأخوذ بالمرأة؟ انظر إلى جسدها وهي في حالة الوضع.
  • الحبّ محض أنانية مزدوجة.
  • الحب واحد من أمراض الكبد.
  • «القلب» اسم أدبيّ للشهوة الحيوانيّة.
  • لا تتألّموا أيها المحرومون، لا حبّ هناك، وإنما لعبة ظالمة لا يجيدها غير الاختصاصيين.
  • لا قَدََر ولا إلهام ولا إخلاص ولا خيانة، بل كيمياءات تتجاذب ولحوم تتناهش، والغَلَبة من خارج للغلاف ومن داخل للهورمونات، وأدب الأدباء حول المرأة إما فائض الشَّبّق وإما قناع العجز، والمرأة ضمناً تستغبي ما «توحيه» لخيال الرجل، الخ...
    الجدل في هذا الأمر هو نسخة عن الجدل في أيّ سرّ من أسرار الطبيعة. اكتناه السرّ لا يشفي منه. لا شفاء هناك بل على الأكثر نوبات. نوبات تخمة ونوبات جوع.
    لم يكن رجل الغابات مغشوشاً بامرأة الغابات، ومع هذا كانت تلك الحكاية العجيبة. العادية والعجيبة. ليس أكثر تكراراً من هذه الحكاية وليس أكثر منها تجدّداً. لأن سوء التفاهم، وهو أكيد، ينبعث بكْراً مع كل من يولد ومعه ينبعث أمل أو وهم جديد بالنجاح حيث كان الفشل. هذه هي القاعدة: الملل للراحل هو الدهشة للآتي. إن ما نسمّيه سوء تفاهم، ننسب إليه «خدعة» الحب و«ميكانيكية» العشق ودورة المغناطيس كلّها (بما فيها الشعر والموسيقى وباقي الفنون) هو نفسه جذر الحياة وشرط قابليّتها لنفسها، بدونه، وإذا ساد الفهم الوضعي «العلمي» العقلي العاقل للعلاقات والأشياء، يعمّ اليأس وينقرض الإنسان، وما كانت لتنقدح شرارة واحدة من شرارات الحضارة. لقد أراد المتهكّم أن يذمّ بالحب حين دلّ على عنصر سوء التفاهم، وهو عنصر أكيد لا أحد يدّعي نكرانه، بل يمكن ادّعاء استنتاج آخر له، هو استنتاج الشغف عِوَضَ المرارة.

    هذا هو أحد الفروق بين الشعر وبعض الفلسفة. الأخيرة تستنتج من العَبَث عَبَثاً ومن العَدَم عدماً بل أحياناً من الدالّ عَبََثاً ومن الوجود عَدَماً. فلاسفة نشّفَت قلوبهم فنفضوا على تلامذتهم فتافيت ضغائن كان يمكن أن تنقلب حبوراً لو تغيّرت ظروفهم البيولوجيّة أو الاجتماعية. الشاعر قد يكون مُعْدَماً ومقهوراً حتى الموت، محكوماً بمرض وراثيّ أو سجيناً أو منفيّاً، ومع هذا يشعّ بالنور. كنت سأقول: ليس من وظيفة الشعر أن يُعتّم، لكنّ الأصحّ القول: ليس من طبيعة الشاعر أن يُعتّم. النور الذي على كل شيء هو نور الشعر. إن أنت انبهرتَ بهذه المرأة فالنور الذي يبهركَ فيها جزء كبير منه هو نورك. أنت الذي يُعديها نوراً ولو كانت هي التي خضّت زجاجته فيك. دعها تتلقّى بُشرى جمالها منك.

    لو لم يكن الكائن البشريّ هو نفسه حزمة نفايات وآيةً لما كان الأمر كلّه يستحقّ المتابعة. كانت الحركة توقّفت مع آدم وحوّاء دون سائرهما. كانت الأرض تكون اليوم هي الفردوس والفردوس غير مفقود لأنه خالٍ والخالي لا يفقده أحد. أعظم العجائب هي هذا التفنّن اليومي الذي تمارسه المرأة لتتبرّج وتَفْتن. هي أدرى الجميع بنواقصها، ومع هذا يدعوها هاتف عميق منذ طفولتها للإغواء. طبعاً لأنها تريد أن تُعْجِب، ولكنْ أيضاً لأنها تدرك بالحدس الدهريّ أن دورة الحياة تعتمد على جاذبيّتها. قدرة الجَذْب في المرأة فرع من فروع المعجزة.
    امتحِنْ هذه القدرة، لا أحد يدعوك إلى فخّ بل إلى الخروج من الزمن. عندما ينطفئ الوهج اتركْ نفسك عرضةً لوهج آخر. لا أحد يدعوك إلى سجن بل إلى الوقوع في التجربة.