أمل طفيلي
يزدحم منزل “أبو ناصر” في قرية يحمر الجنوبية بالقطع النادرة التي تجتمع لتروي تفاصيل الحياة الريفية اللبنانية، وتبوح بقصص الحقول ورائحة الحصاد.
“أبو ناصر” هو حسين نجيب ناصر، رجل سبعيني طغت هوايته على كل ركن من أركان منزله ذي الأحجار الصخرية والقناطر القديمة التصميم، الذي ورثه عن والده فحوّله الى متحف. بدأ العمل أستاذاً في مدرسة النبطية عام 1962، ثم انتقل عام 1963 للعمل موظفاً في “وزارة البريد والبرق والهاتف”، وذلك حتى تقاعده. مهنة “البوسطجي” التي أحبها، لم تطفئ شغفه بتربية المواشي، ولم تثنه عن ممارسة هوايته المفضلة، وهي جمع كل ما هو نادر وأصيل من مفردات الحياة الريفية، حتى أصبح لديه متحف بعض قطعه ورثها عن والده والبعض الآخر اشتراه.
يفتخر أبو ناصر بمتحفه الذي يطلق عليه اسم “متحف الذاكره” فهو لا يتخلى عن أية قطعة منه مهما ارتفع السعر الذي يعرض عليه.
“أبو الشوارب” كما يطلق على نفسه هو المرشد والدليل في هذا المتحف. يدعو الزائر بحماسة الى جولة في متحفه، يقف قرب حجر أسود دائري كبير، هو جاروشة كانت تستعمل لجرش الحبوب. ثم يتقدم ناحية أواني المطبخ، فيحمل منها قطعة تسمى “النصف مد” كانت تستخدم لكيل الحبوب وعمرها مئة واثنتا عشرة سنة. وهنا جرة الزيت الفخارية الكبيرة. وضمن الأدوات المعروضة أيضاً مكواة حديدية، ومحمصة بن وبعض الأواني التي توضع فيها الأطعمة، وجميعها لا يقل عمرها عن تسعين سنة. ينتقل أبو ناصر الى أكثر القطع غلاوة على قلبه، وهي الإبريق الفخاري، يقول انه كان يستعمل لغلي النباتات والزهور و“عمره 150 سنة ورثته عن والدي”. وفي ركن آخر مجموعة الفخاريات العتيقة التي وجدت في إحدى المغارات. في “متحف الذاكرة” قطعتان فريدتان، الأولى مهد خشبي متوارث من الأجداد الى الأبناء، مهد طفولة أبو ناصر وكثر من أقاربه، ويزيد عمره على مئتي سنة. ويؤكد أبو ناصر لزواره “لن تروا مثله في أي مكان آخر”. أما القطعة الثانية فهي “فرد البكر”، مسدس صُنع قبل مئة سنة.
يمشي الرجل السبعيني مستوي القامة، يبدو ان سنوات العمر لم تفلح في حنيها بعد، ويتجه الى حيث يحتفظ بجرن صخري كبير، الى جانبه محدلة، وهنا نورج خشبي لطحن الحبوب، فضلاً عن “ندافة القطن والصوف”.
يزداد البريق في عينيه ويبدو الحنين في صوته، وهو يتحدث عن أدوات الصيد القديمة، ويعرض فخوخ العصافير والغزلان التي هجرت البراري فلديه قرنا غزال صيد منذ ثمانين سنة.
ومن مهنته الأولى التي مارسها أيام الصيف، وهي رعي المواشي، يحتفظ بـ“مطرة” و“مطبخية” لتسخين الحليب وجرس يوضع في عنق المواشي.
لوازم الخيل حاضرة في المتحف أيضاً من اللجام الى النضوة فـ“المحسة” التي كانت تستعمل لتنظيف شعور الخيل.
لا ينفك أبو ناصر يقارن بأسلوبه الذي لا يخلو من الفكاهة بين حياتنا اليوم وحياة الماضي بجمالها وطيب عيشها، هذا الماضي الذي يمنح متحفه تذكرة عبور قصيرة المدة لأجيال الحاضر والمستقبل للتعرف به.