هذا المقال وسابقه ليسا مراجعة لحفلات ساحل علما بل هما، كما أسلفت الإشارة، خواطر عامّة من وحي فيروز الدائمة، فيروز التي لا يُضاف إليها ولا يُنْقَص، ثابتة في قيمتها ومتربّعة على عروشها، لا ينتهي التأمّل في صوتها ولا يزيد إدمانها صاحبَه إلّا اكتشافاً.هما تحيّة إلى التحيّة التي تؤدّيها فيروز لمحبّيها بإطلالاتها وإحيائها شعلة الرباط المقدّس بينها وبينهم.

■ ■ ■

«أغنية لهالشحّاد» كان يجب أن يقول الملك المتنكّر في «هالة والملك» عوض «حسنة لهالشحّاد». وما الفرق. حَسَنة لمهادنة الجوع، أغنية لمراوغة القَدَر.

■ ■ ■

أذكى ما في هذا الغناء قِصَرُه. الوقت الطويل لا تزجيه الوليمة الطويلة بل اللقمة السريعة. أذكى ما في هذا الغناء خطْفُهُ قَدَمه. أوجَزَ قبل أن يوجز العصر. سابَقَ النفس المحمومة إلى معالجة سأمها بأسرع من شبعها.
أغنية لِها الشحّاد: لا أحد أمام الحياة أكبر من متسوّل.

■ ■ ■

قليلاً ما حمل عاصي الرحباني هَمّ مسرحيّة جديدة أو لحنٍ جديد. كان يقول للمنتقد: «ما لم يعجبك اليوم سوف يعجبك غداً».

■ ■ ■

في اللحن الرحباني لا تنفصل الذاكرة عن المخيّلة. والذاكرة إنسانٌ متكامل: الماضي يحمل مستقبله. الشعور واقع والواقع شعر. تَجاسُدٌ بين الذكرى والنبوءة. «أيّام فخر الدين» عمل الذاكرة الشاعرة: فخر الدين شاعر يؤرّخ لفخر الدين.

■ ■ ■

نتذكّر حليم الرومي. لو لم يلاحظ نهاد حدّاد في جوقة الإذاعة. لو لم يخيّرها بين اسمي شهرزاد وفيروز. لو لم يلحّن لها ويشاركها الغناء. لو لم يستدر على نفسه في لحظة نكران ذات ويقرّر أن وقته لم يعد كافياً لصوتٍ زاخر بالأصوات، ويقرّر أن من واجبه أن يعهد بها إلى مَن ينذر لها نفسه، مَن يطلّ على الدنيا كما هي فيروز في إطلالتها. لو لم يُعرّف حليم الرومي فيروز على عاصي. لو لم يتشاوف الرحباني على فيروز حدّ استثقالها له وتصميمها على إدهاشه بصوتها. لو لم يمشِ الرحباني على طريق مغاور هذا الصوت وذُراه وسفوحه ويتلصّص على مخابئه ويترهّب لاكتشاف مطاويه واستغلال إمكاناته وتطويره و«تمثيله» و«مسرحته» وتقميشه وحراسة أسطورته...
ما فعله عاصي الرحباني مع فيروز (ومع سائر أفراد فرقته، فوصل معه ـــــ مثلاً ـــــ نصري شمس الدين إلى مراتب في التألّق لم يعرفها في عمله خارج منظومة عاصي، ونصري الذي لم يدرس التمثيل في برودواي جسّد فخر الدين الثاني تمثيلاً وغناءً كأفضل ما يمكن أن يُجسّد نجوم هوليوود أدوار كبرى الشخصيات التاريخية) ما فعله عاصي مع فيروز هو واجبُ كلّ ملحّن مع المغنّي وكلّ مخرجٍ مع الممثّل. يجب أن يكون الملحّن كوريغراف الصوت وحاميه من إغرائه، من نداء هاويته. هناك آلات تكتشف الماء تحت الأرض. هناك طيور، كالهدهد، ترشد إلى الماء. الملحّن المثالي هو مَن تتوافر فيه كفاءات المعلّم والمكتشف والراعي ومعيد الخَلْق بعد الخَلْق، استخراج المكنون وستر الضعف وتزخيم القوّة، وفق قياسات، علميّة وحَدْسيّة، لا تخطئ مثقال ذرّة. يعرف الأصوات كما يعرف الله الخلائق. يعطي كلّ صوت بحسب دعوته.
صوت فيروز لاقى الوجه الإيجابي من قَدَره في رعاية عاصي الرحباني، ثم الأخوين رحباني، ثم زياد الرحباني.
الوجه السلبي ـــــ المعاناة، سوء التفاهم، التحامل عليها، الظلم، الحقد، البشاعات، الوجه السلبي الذي لم يرحمها، باقٍ طيّ ضلوعها. صار الكتمان الشخصي مرادفاً لفيروز. الناس لهم الغناء. لهم العطاء. الحميمون والزوّار لهم الحديث في المنزل. الحقيقة لها الله.

■ ■ ■

في السنين الأخيرة بدأت فيروز تبدي بعض الحركة الإيقاعيّة على المسرح، كأنْ تُرقّص كتفيها قليلاً، بإشارةٍ إيحائيّة أكثر منها حركة كاملة. (هذا ما لاحظه، مثلاً، جمهور حفلاتها في ساحل علما). لم تعد تلجم رقصها الداخلي لجماً تامّاً. ما سُمّي الصنم كان دوماً يغلي تحت حجابه، ولا يهتزّ عضل أو يرفّ جفن. صوتٌ لم يتحرّك حوله غير شفتيه. أمواجٌ تتدفّق من سكون. روح المغنيّة تبثّ كهرباءها في روح المستمع على أثير الداخل، ولولا التصفيق لما ظهر أثرٌ للانفعال الخارجي.
يقول منصور الرحباني إن مرحلة الأغاني الراقصة في مطالع المسيرة ساعدت فيروز في امتلاك التناغم مع اللحن على هذه الصورة. لولا أننا نجد في المراحل السابقة للأغاني الراقصة، مراحل الإذاعة اللبنانية ما بين حليم الرومي وخالد أبو النصر ونقولا المنّي وسواهم من الذين غمرهم النسيان، نجد صاحبة الصوت نفسها تؤدّي بالقدر نفسه من معانقة الإيقاع، وبشفافيّةٍ نالت عليها لقب «ذات الصوت الملائكي».
صوتٌ ملائكيّ، على أن لا نحمّله المعنى اللاجسدي الطهراني. صوت فيروز مفعَم بالمشاعر، أو هو بالأحرى مفعِمٌ بالمشاعر، إذا تحدّثت في البيت احتشد المكان بالأصداء الكهربائيّة، وإذا صمتت سيطر فراغُ ما بعد الفرح، وإذا غنّت تلاعبت بحنجرتها ما بين الانقشاع والتغييم، الخشوع والهيبة والمداعبة والهدهدة. صوتٌ ملائكي بنسبة ما هو الملاك بَشَر بهيّ، مخنوقٌ بشوقٍ مخنوق. ليس صوت فيروز مجرّداً من الجسمانيّة كما قد يوحي «الصوت الملائكي» أو تشبيه سعيد عقل «سفيرة لبنان إلى النجوم»، إلّا إذا أردنا بالملاك الصفاء وبلبنان مفهوماً شعريّاً وصوفيّاً يتجاوز الدلالة الانتسابيّة. إلّا إذا أردنا بالنجوم لواعج النفس المرتعشة على شفا روحها، ونائمات الذاكرة، وساهمات الوجدان التي يكاغيها صوت فيروز كطفلةٍ أو يدلّلها كأمّ.
من البداية أطلّ صوتُها «متل اللي بدّو يضحك ويبكي». الكائنان في واحد. طفلةٌ في امرأة. امرأةٌ في لا حدود الكائن.
ماءٌ على هواءِ ناره.

■ ■ ■

من فيروز يخرج السامع أكثر انشحاناً بالانفعال. لا يُفرغه الصوت بل يملأه، يضغطه، يخدّره ويضغطه. لا يستخفّه الطرب فيرمي طربوشه بل يسمّره المغناطيس ويحفر به تركيزاً. صديق حضرتُ وإيّاه إحدى حفلاتها في معرض دمشق ظلّ يرتعش ساعةً كاملة بعد الختام عاجزاً عن النطق. «طحنتْ عظامي» قال. كانت تلك سنة غنّت «طالت نوى».
يصبح السامع جاراً لنفسه. ينفصل. يرعش صوتها الضمير الأعمق وكأنّه يخلق للضمير ضميراً هو ما بعد الخطيئة، طافحاً بالتوبة. يناول صوتُها الكائن القربان خالصاً من الغبار. يَحلّ الصوت كحامل الشفاء لا هابطاً من السماء ولا طالعاً من البحر بل مقبلاً من أبعد ومن أقرب، من مَخبأ في الذات...

■ ■ ■

مخلوقةٌ من غناء وغناء، من صوتٍ وأصوات. حِكْمتُها غريزة وحَدْس لا خبرة واقعيّة. قليلة هي معاركتُها اليوميّة للحياة المألوفة. عالمٌ مقتصرٌ على بضع عادات مغلقة معظمها طفوليّ الروح. لولا خَتْم السريّة لظننتها ما برحت في صفوفها التكميليّة بمريولها الكحلي. صَنَع لها الأخوان رحباني سوراً عاشت خلفه مَحميّةً من العالم الخارجي، معفاة من واجباته وطقوسه. اليوم، بعد سقوط هذا السور، تتوزّع مهمّة الحماية، وما أصعبها، بين زياد تأليفاً وتلحيناً وريما إخراجاً ودفاعاً.
كان الأخوان رحباني يردّدان نقلاً عن رفيق الدرب صبري الشريف قوله إن شهرة فيروز سبقت ثقافتها. إذا صحّ هذا القول يكون قد أغفل الحقيقة الآتية: شهرة فيروز من صوتها، وصوتها ثقافتها، وكفى به ثقافة. وقد حمل تراثاً أدبيّاً وغنائيّاً ومسرحيّاً كان لألوف الناس بمثابة مدرسة. الأرجح أن القائلين الثلاثة كانوا يحاولون تبرير بعض ما لم يفهموه من مواقفها أو لم يستطيعوا ممارسة سلطتهم عليه. إنّ شهرة الفنّان غالباً ما تتجاوز ثقافته، فالفنّان قوّة من الطبيعة، موهبةٌ من الله، وليس فيلسوفاً أو عالماً. الحقيقة أننا نُصيب إذا وَضَعْنا كلمة «خبرتها» محلّ «ثقافتها». لم تَفِق نائمةُ الغابة حتّى بعدما طعنتها الحياة مراراً طعناتٍ هدّامة، أكثرها علانية حرمانها عطاء عاصي الرحباني. وفي رأينا أنّ نائمة الغابة كانت هي سرّ صوت فيروز وسرّ شخصيّتها وسرّ مرورها فوق الزمن مرور الحلم في الليل وفي النهار. هذه النائمة المسحورة لا تزال نائمة ومسحورة ولكنْ مجرَّحة. نعْمتها وثأرُ النحس من نعمتها. الصوت الذي هو رحمة لم تُرحم صاحبته. عاملتها الحياة على قدر تَحمّلها لا على قدر عطائها.

■ ■ ■

الفنّانون والأدباء يعكسون في أعمالهم تجارب حياتهم. فيروز لم تضع في صوتها وقائع حياتها بل ما اشتهت أن تكونه هذه الحياة.