ما قرأتُ عن فنّان أو كاتب إلّا حفزتني المطالعة على طلب المزيد. حياة هؤلاء مختبرات لأهوائنا، وأكثر ما يشدّ إليهم هو محاولة المطابقة بين أعمالهم وأشخاصهم. نريدهم آلهة ونريدهم بؤساء. نريد أن نحلم من خلالهم وأن يعيشوا ويعملوا بالنيابة عنّا. خلافاً للبعض، أرى أن السيرة أعظم خدمة للكاتب والفنّان. بعض السِيَر بلغ من الروعة ما لا يستحقّه المكتوبة قصّة حياته. سيرة الكاتب والفنّان بديل حديث من الأسطورة القديمة.
رغم المآخذ عليه، وبعضها خطير، تبقى سيرة جبران كما كتبها ميخائيل نعيمه من أفضل نتاجه. ولولا الكتابات عن مي زيادة بسبب محنتها مع أقربائها لما بقي لها كبيرُ ذِكْر، اللهمّ إلّا عرضاً عند الحديث عن غراميّات جبران. والقارئ يعرف الكتاب الذي نشرته «دار المكشوف» عن الياس أبو شبكة بعد وفاته وبأقلام طليعة أدباء ذلك الوقت أكثر ممّا يعرف أدب أبو شبكة. ويعرف حكاية طه حسين وكتابه «الشعر الجاهلي» مع الأزهر أكثر ممّا يعرف مؤلّفات طه حسين. سيرة معظم الأدباء تنبض بالحياة أكثر من مؤلّفاتهم. وحتى الموسيقيّون العظام استقطبوا الجماهير بالأفلام السينمائيّة التي تروي قصّة حياتهم أكثر ممّا استقطبوها بأعمالهم. هذا موزار وبيتهوفن وتشايكوفسكي وشوبان وغيرهم وغيرهم. السيرة هي الإطار الذي يبحث عنه القارئ ليضع داخله صورة الكاتب أو الفنّان.
استزادني راغبون في معرفة أوسع مدىً عن الأخوين رحباني وفيروز، رغم وفرة الكتب عنهم، وأبرزها «طريق النحل» الذي روى فيه منصور الرحباني قصّة الأخوين كما دوّنها هنري زغيب. ماذا يريد القارئ من الفنّان والكاتب أكثر ممّا يعطيه نتاجهما؟ يريد الوجه الآخر.
القارئ، أو الإنسان عموماً، يحتاج إلى ما يقدّس كما يحتاج إلى ما يدمّر. عندما يعيش على صوت يصبح شريكاً في حياة صاحبه. يريد أن يعرف. أسوأ ما يُرَدُّ به على هذا الفضول هو أن الفنّان في حياته شخصٌ عاديّ مثله مثل الجميع. لا أحد يرضى بجوابٍ كهذا. إنه إهانة للخيال، وأحياناً إهانة للواقع. كلّ مَن يُعطي جمالاً يصبح مِثالاً. خيال المتلقّي يحوّم حول كيان المُلْقي كما يحوّم الطير حول الكهف. يريد أن «يدخل» ويستهول سلفاً ممّا قد يكتشف. حيرةٌ تحسمها موهبةُ كاتب السيرة. عليه أن يُحسن تقديم حياة بطله أو بطلته في قالبٍ شغوف، ينضح حبّاً، فإذا أورد ما يخرج عن المألوف والمتعارف عليه ينقذه الشغف ممّا قد يعتري الصراحة من فظاظة ويعلو به جلال الصدق ونزاهة التعبير عن المناخات الحقيرة.
للحقائق صدمات. على كاتبها، سواء كان صاحبها في مذكّراته أو مؤرخها في السيرة، أن يضعها في ظروفها ويفهمها ولا يتعامل معها كأنه ينبش فضائح.
للحقائق صدمات بعضها لا يُحتمل. الحيرة مفهومة والتردّد مفهوم والتمسّك بالستائر مفهوم، على أن لا يمحو المتذكّر ما لا يجوز محوه لأنه شكّل انعطافة أساسية في مسيرته.
المشهور مسكين. ومسكينٌ كلّ مَن يتطفّل أحد على مخابئه. وأفظع وحشٍ أفرزه الإعلام هم مصوّرو الباباراتزي. ليس لأحدٍ الحقّ باقتحام حياة أحد. إذا كان من اقتحام فيجب أن يبادر إليه «البطل» نفسه. الأفضليّة للسيرة الذاتيّة والمذكّرات على كتّاب السيرة في كشف الحقائق وأداء الشهادة.

■ ■ ■

يقودني هذا الكلام إلى موضوع المذكّرات بوجهٍ عام، خاصةً منها تلك التي لا تتحدّث عن صاحبها وحده بل عمَّن عايشهم. وسأروي حكاية.
الشيخ فؤاد حبيش أسّس منتصف الثلاثينات من القرن العشرين وأدار أهمّ جريدة أدبيّة لبنانيّة وأسّس وأدار بيتاً للنشر نفح المكتبة اللبنانيّة بنخبةٍ من أمّهات كتبها الأدبيّة. «المكشوف». بدأت شبه إباحيّة وتحوّلت إلى الجدّ والكفاح. كان من فرسانها الياس أبو شبكة وسعيد عقل والريحاني ومارون عبّود وعمر فاخوري ويوسف غصوب وصلاح لبكي وفؤاد أفرام البستاني وبطرس البستاني (الثاني) ورئيف خوري ولطفي حيدر وسليم حيدر وتوفيق يوسف عوّاد وخليل تقي الدين ولويس الحاج وكامل مرّوة وعبد اللطيف شرارة وأحمد مكّي وفؤاد حدّاد وميشال أسمر وادوار حنين وقدري قلعجي وأنطون مقدسي وتوفيق صايغ ويوسف الخال وفؤاد سليمان وفؤاد كنعان وجوزف باسيلا وجورج مصروعة وغيرهم وغيرهم من الأدباء العرب الذين صنعوا وهج تلك الحقبة الغَلَيانيّة التي أعقبت ظهور جبران والمهجريّين ثم طه حسين والإصلاحيّين ومهّدت لتحوّلات الخمسينات والستّينات والسبعينات وأبرزها مجلة «شعر».
عُرف الشيخ فؤاد بظرفه وفَلَتان لسانه، وبصداقاته لكوكبةٍ من نجوم «المكشوف». كان مستودع الوجه المجهول لمعظمهم. ذاكرته خزانةُ الخزائن.
كان يتردّد على «النهار» أواخر الستّينات. أذكره بأناقته الأرستقراطيّة يوم عرّج عليّ وأبدى إعجابه بقصص الياس الديري كاشفاً عن تصميمه على نشر إحداها عن «دار المكشوف»، وكانت الدار قد أحجمت من سنين عن نشر الأدب مقتصرة على الكتب التأريخيّة والسياسيّة. كنت كلّما التقيته أثَرْتُ معه موضوع مذكّراته، فيعدني بالتفكير بعد أن يُشبع نفسه استهزاءً ويشبعني إحباطاً. ذلك المساء، وكانت آخر مرّة أراه، زدتها عليه غير متورّع عن تحسيسه بالذنب إنْ هو لم يدوّن ذكرياته عن تلك المرحلة بما فيها من حقائق. «هل كثيرة علينا كتب من هذا النوع!؟».
أطرق الشيخ ولم يتهكّم. ولا شتيمة بلهجته الكسروانيّة الشهيرة. لم أعهده على مثل تلك الرصانة. قال: «هات طريقة تُسهّل عليّ الأمر». اقترحتُ أن يستجوبه أحد. قال: «كلّهم أثقل من بعض». قلت: «لتكن صبيّة حلوة». أجاب بجملةٍ لا تُنْشر. عرضتُ أفكاراً أخرى دَعْوَسَها جميعاً. قال: «شْبيكْ؟»، يقصد ما بك أنت وهذه الاقتراحات البائخة. قلت: «عم تهرب». قال: «لا والله». قلت: «آلة تسجيل. جيب آلة تسجيل واحكِ وحدك». قال: «زْمِكّ! هيدي ثالثة الأثافي!».
عند هذا الحدّ وصلتُ إلى ما أراد لي الوصول إليه: اليأس... وحين اطمأنَّ إلى انهزامي ابتسمَ ابتسامةً أكثر صخباً من ضحكته وقال بصوته الهامس (أُجْريَتْ له جراحة حنجرة أطفأت ذلك الصوت الذي ملأ الدنيا حيويّة ومَرَحاً) قال: «للدغري معك حقّ. لازم. مَنَّشْ هالقدّ عكرتة فكرة المسجّلة».
ـــ وعد؟
ـــ وعد.
ـــ بشرفك؟
ـــ رجعنا!؟ هيأتو غسّان (تويني) عداك جديّة. لو لويس (أبي)، كان بلّشا «كيف الهدهد؟» ونهاها «راسك عم يوجعني!».
انصرف وهو يؤكّد لي: «هالمرّة صدّقني عن جدّ».
قليلاً ومات. أخذ معه الخزانة. ذاكرة ابتلعت ذاكرة ابتلعهما الظلام. فؤاد حبيش الذي لم يعرف الصمت طوى الصمتُ برحيله قصّة أغنى مرحلة من تاريخ لبنان الأدبي.

■ ■ ■

شخصيّاً، بتواضع، لم أَعِد أحداً. بالعكس، وعدتُ البعض بعدم كتابة مذكّراتي. وللحقّ أعتقد أنّي بتُّ أتفهّم سرّ تَردّد فؤاد حبيش حيال كتابة مذكّراته.
لا قيمة للمذكّرات كما عهدناها في تراثنا العربي. هي مجموعة انحيازات للذات. «منتخبات» من الماضي. إنّنا نفتقر إلى ثقافة الحقيقة. وفؤاد حبيش، صاحب كتاب «رسول العري»، كان يصعب عليه أن يسجّل للتاريخ (ولنفسه أوّلاً) مذكّرات منافقة. وكان يصعب عليه أكثر أن يكتب ما يعرف.
الموت فجأةً أسعفه وأنقذه من ذلك الواجب المستحيل.




عابرات




أيّاً يكن صوتكَ فهو ليس يدك وأيّاً تكن يدك فهي ليست قلبك.

■ ■ ■

كلّما سَلوناهم حَضَر شيءٌ منهم في عيوننا.

■ ■ ■

المخيّلة ذاكرة تَخترع.

■ ■ ■

وَتَر الطيبة قد يتحرّك حتّى في الشرّيرة إذا اطمأنّتْ أن مُحدّثها يعطيها بلا مقابل.

■ ■ ■

الكبت لا يَنسى بل يُخمّر، يعظّم المشتهى.
التخبئة تعتيم إذا طال استحال عتماً مدفوناً في مغارة النسيان.

■ ■ ■

تعزية لكَ لن تعرف كذبها من صدقها:
من شِيَم الكبير أن يُخان.

■ ■ ■

أخطاء لا تُمحى إلّا بارتكاب أسوأ منها...

■ ■ ■

أحد أمثالنا «لكلّ قرد جنزير».
... لكلّ جنزير قرْد، أيضاً.

■ ■ ■

الخجول يهرب من العيون في اليقظة وينام تحت مِرْوَحة انفتاحها عليه...

■ ■ ■

كلّ شيءٍ تَغيّر إلّا العطر.
بقي فوّاحاً على رفّ العمر.
صباً دائم.