مُجدّداً، أصدر وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، تعميماً يُجيز فيه لرؤساء البلديات، وللقائمقامين في القرى التي ليس فيها بلديات، ما عدا المدن الكبرى وغربي الأوتوستراد من الأولي حتى المدفون، منح تصاريح بناء لمالك العقار أو أحد فروعه أو أحد أصوله، لغاية 31/3/2018، من دون اتباع الأصول القانونية والتنظيمية الخاصة بإصدار رخص البناء.
لقد بات ممكناً، بموجب هذه التصاريح، إضافة طابق سكني واحد كحدٍّ أقصى لا تتجاوز مساحته الإجمالية 150 متراً فوق طابق موجود أو فوق بناء سبقت إقامته بموجب التعاميم السابقة المماثلة، وبناء طابقين سكنيين بحدّ أقصى لا تتجاوز المساحة الإجمالية لكل طابق 150 متراً على عقار لا يوجد عليه بناء سكني، مع إمكانية إضافة طابق سفلي إذا كان مستوى العقار أدنى من مستوى الطريق المحاذي لواجهة البناء.
هذا التعميم هو الرابع من نوعه منذ تولي المشنوق حقيبة الداخلية والبلديات؛ التعميم الأوّل ورقمه 613 صدر بتاريخ 5/5/2014، الثاني ورقمه 770 صدر بتاريخ 9/10/2015، الثالث ورقمه 735 صدر بتاريخ 28/7/2016.

تسيير أمور المواطنين أم رشى انتخابية؟

يبرر المشنوق التعميم الجديد بـ«حرص الوزارة على تيسير أمور المواطنين والحدّ من الهجرة الريفية من جهة وتفشّي ظاهرة مخالفات البناء من دون أي ضوابط أو معايير ومعالجتها في حدها الأدنى من جهة أخرى». لا يقول التعميم كيف ستتحقق هذه الأهداف عبر الإمعان في تشريع فوضى البناء وتدمير الأراضي الزراعية وتشويه النسيج العمراني وتشجيع الناس على تجاوز قوانين البناء والسلامة وغيرها؟ يجمع المهندسون والمختصون الذين اتصلت بهم «الأخبار» على أن تعاميم استثنائية كهذا ترتب مخاطر كبيرة وتقع ضمن خانة «الرشى الانتخابية».
يوضح المشنوق أن هذا التعميم ليس الأول، «إذ سبق أن أصدرنا تعاميم مماثلة هدفها بالدرجة الأولى تسيير أمور المواطنين، وخاصة الفقراء منهم، ومساعدتهم على تخطّي المشاكل المتعلّقة بعمليات المسح والفرز». ويلفت إلى «وجود آلاف العائلات التي لا تملك عقارات في مناطق ممسوحة، وهذه مشكلة كبيرة في عدد من المناطق، كالبقاع الشمالي وعكار. وهذه العائلات بغالبيتها من الفقراء الذين لا يملكون سوى أسهم في عقارات كبيرة، ولا قدرة لهم على تملّك عقارات كاملة»، مُشيراً إلى أن التعميم «عادي ولا يحتاج أن يُجعل منه قصة». وعن القول إن توقيت التعميم يصبّ في خانة الرشى الانتخابية، يردّ المشنوق بأن «هذه التعاميم سيتوقف العمل بها في آذار، في حين أن موعد الانتخابات محدد في أيار، ما يعني أن تُهمة الرشى الانتخابية غير صحيحة وفي غير محلها»، لافتاً إلى أن «الرخص تخضع لرقابة البلديات».

نقيب المهندسين:
التعميم خطير جداً ويُكرِّس الفوضى العمرانية

يردّ وزير داخلية سابق على هذا الكلام بالقول إن «المُشكلة الأساسية في هذا التعميم أنه يخالف قانون البناء والتنظيم المُدني»، لافتاً إلى أنه «صحيح أن رئيس البلدية هو من يُصدر رخصة البناء، لكنه يُصدرها بعد أن تمرّ بالمكتب الفني للتنظيم المُدني في المناطق لمراقبة تطابق الرخصة مع شروط البناء»، مُشيراً إلى أنه لا يمكن ترك هذه المسؤولية للبلديات وحدها «التي يمكن أن تفتح على حسابها». فيما مهلة الشهرين التي تفصل توقف العمل بالتصاريح عن موعد الانتخابات لا تلغي شبهة شراء الولاءات السياسية والأصوات الانتخابية.

تشريع الفوضى العمرانية

يقول نقيب المُهندسين في بيروت جاد تابت، إن هذا التعميم «خطيرٌ جدّاً، لأنه يُكرّس الفوضى العمرانية في البلد»، لافتاً إلى أن النقابة بصدد عقد مؤتمر صحافي يوم الجمعة المُقبل لإبداء موقفها الرافض والمُستنكر للتعميم ولإعلان الخطوات التي ستُقدم عليها، ردّاً على هذه القرارات، وللوقوف على تداعياتها الخطيرة، مُكتفياً بهذا التعليق المُقتضب إلى حين إعلان موقف نقابي حازم.
سابقاً، طُرح في النقابة اتخاذ إجراء عملي يقضي بأن تعمد النقابة إلى إصدار قرار تمنع بموجبه على مهندس العمل بموجب هذا التعميم، إلا أن المشكلة التي تعترض هذا الإجراء، أن العديد من المهندسين سيكونون متضررين.
يُجمع عدد من المعماريين والمهندسين العاملين في التخطيط المُدني على أن هذه التعاميم الاستثنائية لا تضرب مفاهيم التخطيط المُدني والأطر القانونية التي تنظم عملية البناء فقط، بل تمسّ المبادئ «البديهية» لقوانين السلامة العامة الكفيلة بالحفاظ على سلامة البناء والبيئة والطبيعة والنسيج العمراني الضامن لبيئة اجتماعية صحية ونظيفة.
يقول الخبير المهندس المعماري المتخصص في التخطيط المدني فراس مرتضى، إن هذا النموذج من القرارات يتنافى وجميع السياسات التخطيطية التي يحتاج البلد إلى تطبيقها، «ولا سيّما أنه يتعارض مع قانون البناء الذي يميز بين الرخصة والتصريح في المادتين الأولى والثانية منه»، لافتاً أيضاً إلى أنها تختزل دور الأجهزة الفنية المناط بها التأكد من مطابقة ملف التصاميم للأصول الهندسية، وأولها نقابة المهندسين (المسؤولة عن جودة الملف الهندسي ومراعاته للمعايير الهندسية)، وثانيها المكاتب الفنية من تنظيم مدني واتحاد بلديات، ذلك أن هذه التعاميم تتعارض مع فلسفة قانون السلامة العامة بغياب الرقابة، حيث إن البناء الذي يُشيَّد بموجبها قد اختزلت منه آليات الرقابة على الجودة التي يرعاها نظام تسجيل المعاملات في نقابة المهندسين، ولا سيما إلزامية تنوع الاختصاصات الهندسية، بما فيها فحص التربة.
الانطلاق من هذه النقطة يُعدّ مهماً للإشارة إلى أن وزارة الداخلية والبلديات ليست الجهة المُخوّلة الإشراف على مدى تطابق هذا البناء مع الشروط الهندسية وغيرها.

تجاوز الأطر القانونية والمؤسسات العامة

يرد في البند السابع من «آلية وشروط إعطاء التصريح» في نص التعميم ما يأتي:
«تُكلَّف القطعات الأمنية المختصة إجراء الرقابة الدورية والتأكّد من صحة ومُطابقة الأعمال للتصريح وفق أحكام هذا التعميم، ولا سيما لجهة عدد الطوابق والمحتويات والتراجعات، وعلى أن يتم التنسيق مع رئيس البلدية المعنيّ أو القائمقام في القرى التي ليس فيها بلديات لضبط كل المخالفات وأن يُصار الى إبلاغ الوزارة بتلك المخالفات فور تحققها للبت بها من قبل الدائرة المختصة في الوزارة».
بحسب الأُستاذة في التخطيط العمراني في الجامعة الأميركية في بيروت، المهندسة منى فواز، لا يمكن هذه التصاريح أن تراعي شروط البناء التي يُلتفَت إليها عند استصدار رخص البناء، لافتةً إلى أن هذه التعاميم هي بمثابة تجاوزات للأطر القانونية التي تضعها الدولة من قوانين بناء إلى مخططات توجيهية، ومُشيرةً إلى أن هذا البناء يتفلّت من جميع هذه الأطر. كذلك، بحسب فوّاز، هذه التعاميم تتجاوز أدوار المؤسسات العامة وتُلغي دور المُديرية العامة للتنظيم المُدني، وتُشرّع «إعمار لبنان بالاستثناء» عبر إناطة مهمة التخطيط المدني والعمران بوزارة غير مُختصة. وتخلص فوّاز إلى القول إن هذه التعاميم تُعمّق الشرخ القائم بين المواطن والقانون عبر تشريع الاستثناء وتكريسه.

توسيع الشيوع واستباحة الأراضي الزراعية

يرد في الفقرة (ج) في البند الثاني من «آلية وشروط إعطاء التصريح» في نص التعميم ما يأتي:
«بالنسبة إلى مالك حصة في عقار مملوك بالشيوع لم يرتكب مخالفة بناء في حصته (حتى لو كان هناك مخالفة في العقار مع شركائه الآخرين)، فإنه يُسمح له بناء مسكن خاص له شرط الاستحصال على موافقة مالكي نسبة 75% من مجموع حصص الشركاء في العقار، بموجب إفادة موثّقة لدى كاتب العدل تسمح له بالبناء على العقار على أن لا تتجاوز المساحة المطلوبة للبناء حصته في العقار وفق نظام المنطقة مع حدّ أقصى طابق واحد مساحته 150 متراً مربعاً (..)».
بحسب مُرتضى، إنّ هذا الأمر من شأنه أن يغير من شكل الشيوع دون أن يزيله، وذلك لأنه يتجنّب تسوية وضع المخالفين عبر استصدار رخص لشركائهم تراعي شروط البناء، ويستعيض عنه بمنحهم تصاريح استثنائية لوقت محدود. كذلك، إنّ أبرز تداعيات هذه التعاميم الاستثنائية يتمثّل بـ«استباحة الأراضي الزراعية»، من خلال تشريع البناء عليها خلافاً للقوانين والأنظمة والمخططات التوجيهية.