افتتح لبنان عام1975عمليات انفجار البنى الداخلية لمجتمعات المنطقة العربية، وقد أخذ الانفجار اللبناني شكلاً طائفياً. كان لبنان منذ عام 1943 يعيش نظام المحاصصة الطائفية، وقد تكرّس هذا في اتفاق الطائف عام1989 الذي كان إيذاناً بانتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، وعندما حصل في عام 2005 الانقسام السياسي اللبناني بين فريقي (14آذار) و(8آذار) فإن هذا الانقسام كان انقساماً لأغلبية اجتماعية عند السنّة والمسيحيين والدروز ضد غالبية اجتماعية شيعية، ولو أن اتفاق «التيار الوطني الحر» مع «حزب الله» عام2006 قد أزاح الكتلة الاجتماعية المسيحية الأكبر بعيداً عن (14آذار).كان كسراً لهذا المسار اللبناني أن يعطي الحراك الاجتماعي، البادئ في بلاد الأرز منذ يوم17تشرين الأول\أكتوبر 2019 والآتي لأسباب اقتصادية، صورة جديدة عن توحّد جسم اجتماعي لبناني كبير عابر للطوائف ضد الفئة السياسية - الاقتصادية - الاجتماعية الحاكمة. يضم هذا الجسم في مكوّناته فئات وسطى مفقرة وطبقات فقيرة، تُظهر في حراكها توحّداً في المطالب بسبب المعاناة الاقتصادية، كما تقوم برمي السهام اللفظية ضد تلك الفئة الحاكمة على أساس نظام المحاصصة الطائفية. خلال الأيام التي تفصل عن (17تشرين الأول 2019 اللبناني) انطلقت كتابات كثيرة في توقع ولادة «لبنان جديد لاطائفي» من خلال تلك البذرة الجنينية التي حملها وأعطاها ذلك اليوم اللبناني، وخاصة أن العراق، الذي أنشأ فيه المحتل الأميركي نظاماً من المحاصصة الطائفية - القومية على الطراز اللبناني، قد شهد عام 2019 حراكات عابرة للطوائف تتصدرها فئات اجتماعية شيعية ضد نظام من المحاصصة الطائفية تسود فيه أحزاب إسلامية شيعية. على هذا الصعيد، أوحت تلك الكتابات بأن مسار المنطقة العربية الذي دشّنه يوم 13نيسان1975 اللبناني، بما فيها الانفجار العراقي بين عامي 2004-2006 الذي وصل إلى حافة الحرب الأهلية بين الشيعة والسنة، قد انتهى ووصل إلى خاتمته وبأن هناك بداية مرحلة جديدة عربياً سيدشنها (17تشرين الأول 2019 اللبناني) .
هنا، من الضروري، فحص الأمور بدقّة. الطائفية السياسية، في لبنان أو العراق أو غيرهما، هي حالة من الاتجاه السياسي عند الحزب أو الزعيم السياسي الطائفي وهي كذلك عند القاعدة الاجتماعية لهذا الحزب الطائفي أو الزعيم السياسي الطائفي. الطائفية السياسية، سواء كانت هجومية ومعلنة في مطالبها (مثلاً، المارونية السياسية منذ عام1943) أم كانت دفاعية - وقائية ضد «الآخر الطائفي» أو تتذرع بـ«الآخر الطائفي» من أجل الحفاظ على امتيازات طائفية فئوية قائمة، هي مثل أي اتجاه سياسي آخر له قاعدة اقتصادية- اجتماعية وتمظهُرات ثقافية. والطائفية السياسية هي اتجاه سياسي يحوي منظومة أيديولوجية مثل غيره من الاتجاهات السياسية. الفرق هنا، أن الطائفية السياسية عندما تسود في بلد فإنها تجعل الصراعات السياسية تأخذ شكلاً طائفياً فيما يمكن للسياسة أن تأخذ صراعاتها شكلاً قومياً- دينياً (مثل صراع السنهاليين البوذيين ضد التاميل – الهندوس في سيريلانكا بين عامي1983 و2009) أو مناطقياً (مثل صراع قوات خليفة حفتر المتمركزة في الشرق الليبي مع حكومة فايز السراج في طرابلس الغرب) أو الشكل القومي (الصرب والكروات مع تفكك الدولة اليوغسلافية عامي 1991-1992) أو القومي- المناطقي (أفغانستان بين الباشتون في الجنوب والطاجيك في الشمال في مرحلة ما بعد سقوط الحكم الشيوعي عام1992). في العراق، مع نظام بول بريمر، أصبح الحزب الشيوعي هامشياً في ما كان، بين عامي 1955-1970، أحد أقوى حزبين عراقيين مع حزب البعث. لم يستطع الشيوعيون والقوميون السوريون، كاتجاهين سياسيين عابرين للطوائف، أن يكونا قوة معتبرة في لبنان.
يقود (17تشرين الأول2019 اللبناني) إلى سؤال: هل يقود الوعي الاقتصادي، المبني على وجع الإفقار والفقر، إلى طريق سالك مباشر نحو وعي سياسي طبقي في مجتمع يوجد فيه نظام سياسي مبني على المحاصصة الطائفية؟
لايمكن الإجابة عن هذا السؤال من دون المرور بممر إجباري هو كتاب لينين: «ما العمل؟» الصادر عام 1902والذي هو كتاب موجه ضد «النزعة الاقتصادية» التي وُجدت عند ماركسيين روس حيث انبنى كتاب لينين على أطروحة أن الوعي الفكري- السياسي- الحزبي- التنظيمي ليس ناتجاً من الوعي الاقتصادي الذي لا يمكن في حدوده القصوى أن ينتج أكثر من وعي نقابي- مهني – مطلبي هو ذو طابع عفوي. قال أصحاب «النزعة الاقتصادية» بأن لا حاجة إلى الحزب السياسي ونظريته الفكرية – السياسية التي يتولد عنها البرنامج السياسي للحزب وإنما يكفي النضال من أجل رفع الأجور للعمال وتحسين شروط العمل. أمام «النزعة الاقتصادية» قال لينين بأن الوعي الطبقي العمّالي ليس هو فقط وعياً اقتصادياً موجّهاً ضد الرأسماليين بل هو وعي فكري - سياسي لميدان محدد هو علاقات جميع الطبقات والفئات الاجتماعية تجاه الدولة والحكومة، أي ميدان العلاقة الاقتصادية - الاجتماعية - السياسية - القانونية - الثقافية لجميع الطبقات والفئات الاجتماعية ببعضها البعض. قال لينين بأن هذا الوعي لا يأتي عبر النضال الاقتصادي بل يأتي للطبقة العاملة من خارجها أي من الحزب. هذا لا يشمل طبقة أو حزباً محدداً فقط بل يشمل كل الطبقات والفئات الاجتماعية في علاقتها بالأحزاب والاتجاهات السياسية.
من هذا المنطلق ليس مؤكداً أو حتمياً أن يقود (17تشرين الأول 2019 اللبناني) إلى تجاوز اتفاق الطائف. يمكن لهذا أن يحصل إذا قاد الوجع الاقتصادي عند الفئات الوسطى والطبقات الفقيرة اللبنانية إلى وعي فكري- سياسي يتجه إلى اتجاهات فكرية- سياسية لاطائفية تستطيع قلب طاولة نظام المحاصصة الطائفية وتفرض نظاماً سياسياً جديداً يقوم على «ديمقراطية المواطن» وليس «ديمقراطية المكوّنات».
*كاتب سوري