لم يصمد عبد الرزاق السايس لمعايشة الذكرى الـ 21 لتحرير الجنوب. توفي قبل أيام من العيد الذي شارك نجله محمد بصنعه شهيداً وهو في الـ18 من عمره. كبر العيد حتى صار راشداً. لكن محمد لم يبلغ الرشد بعدد السنوات. كان طفلاً بمعيار القانون، عندما انتسب للحزب الشيوعي اللبناني في الـ15. وبين الانتساب والاستشهاد، شارك بعمليات عسكرية عدة لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد المحتل الإسرائيلي. وفي عام 1988، استشهد ابن برقايل العكارية بين الريحان والعيشية في جزين.
تستعرض شقيقة محمد، ليلى السايس، مآثر كثيرة للشهيد سجلت له في عمره القصير. «كان فعّالاً في فرقة كشافة أسسها مع رفاقه في الحي الذي نسكن فيه. زرعوا الشجر الذي لا نزال نتفيأ تحته حتى الآن». كان «حمودي»، كما ينادونه، لا يعترف بالمناطقية. لا يشعر بالـ200 كلم التي تفصل بين عكار والجنوب المحتل. «كان همّه ليس لنصرة لبنان فقط، بل كل المظلومين في العالم»، تقول ليلى. قبل محمد بعام واحد، استشهد رفيقه وائل نعيم في عملية للجبهة في تلة أبو قمحة (حاصبيا) عام 1987. كان أصغر الشهداء العكاريين في الجبهة. سقط بعمر الـ17. عندما كان يغادر منزل عائلته في حلبا، كانت والدته سهاد تقول له: «ما الذي يأخذك إلى الجنوب؟»، يجيبها بحسم: «هذه أرضنا». في يوم استشهاد وائل، قرّر والده أبو سعيد، الانتساب للجبهة برغم بعد البيت سابقاً عن الأجواء الحزبية والعسكرية. وبعد تسع سنوات، استعاد حزب الله رفات وائل في عملية تبادل للأسرى.

«ما بعرفن، ما شايفن، خبوا وجوهن بالوعر». هكذا كان حال أبناء عكار الذين توافدوا إلى الجنوب لمقارعة الاحتلال الإسرائيلي. بعد الـ200 كلم، طواه شبان تخطوا تقسيمات المناطق. لا يمكن إحصاء من شارك عسكرياً في عمليات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد العدو «إلا إذا ماتوا». ومن استشهد منهم، تسعة من بوابة عكار العبدة - ببنين إلى قرية المشيرفة عند حدود سوريا. والشهداء هم إلى السايس ونعيم، علي هزيم ومحمد عبيد وحسام علي ومخاييل إبراهيم وإيلي حداد. أمّا الشهيدان سمير قطلب ومحمد عنتر فقد سقطا في الميناء على رأس الصخر ـــ طرابلس أثناء التصدي لإنزال عسكري إسرائيلي على الشواطئ.

قدّم الشمال عشرات الشهداء بوجه الاحتلال الإسرائيلي وعملائه في المناطق، في إطار القوى الوطنية وفصائل الثورة الفلسطينية. منهم من لا تزال إسرائيل تحتجز رفاته: حسام حجازي من الميناء الذي استشهد وأسر مع رفيقيه إلياس حرب من تنورين وميشال صليبا من بتغرين، خلال عملية استهداف إذاعة «الأمل» للعملاء عام 1985، والتي أسر فيها جريحاً الأسير المحرر ناصر الخرفان.

عن حقبة التحام دماء العكاريين بتراب الجنوب، يستذكر محمد بشير، المسؤول العسكري للحزب الشيوعي اللبناني في الشمال «كيف انضوى الناس في تحرير الجنوب في إطار واجب دفاع لبنان كله عن أرضه من النهر الكبير إلى رأس الناقورة». يشير بشير، الذي كان مربياً بالإضافة إلى عمله الحزبي ومهماته العسكرية السرّية، إلى كيف «ساهمت القوى الوطنية العلمانية في توحيد الناس حول الجنوب المحتل من دون فواصل مناطقية أو طائفية». تلك الأرضية جذبت كثيرين للمشاركة في المقاومة العسكرية. «لاحقاً، وعن طريق الصدفة، علمت بمشاركة البعض منهم في عمليات. لكن أدوارهم وهوياتهم بقيت مجهولة حتى الآن».

في نهاية الستينات، انضم شيوعيو الشمال إلى «منظمة الأنصار والدفاع عن الجنوب». أنشئ جهاز سرّي مهمّته التصدّي لعدوان محتمل على لبنان على خلفية دوره في دعم المقاومة الفلسطينية. «تساءلنا ماذا نفعل للجنوب ونحن على بعد 200 كلم بعيداً عنه؟»، يقول بشير. «وضعنا تدابير لتعبئة القاعدة وتدريبها عسكرياً مع درس إمكانية إيصال جزء من التدريب إلى فلسطين المحتلة وكيف نؤمّن السلاح للمقاتلين في الداخل وعلى الحدود الجنوبية». وفي إطار التدابير التي اتخذت، كان استشهاد عنتر والقطلب العكاريين، على شاطئ الميناء. ومثلهما الشهيدان العكاريان نبيل حرب وغابي حداد اللذان سقطا في مواجهة قوات الاحتلال المتقدمة من صيدا إلى كلية العلوم ولم يعثر على جثتيهما.

بين عكار والجنوب لا يمكن القول إن «الجمرة لا تحرق إلا في مكانها»، بحسب بشير. جمرة الاحتلال حرقت عكار التي هبّت للدفاع عن أرضها الجنوبية. «لم تكن مقاومة الجنوبيين وحدهم. كان كثر يدافعون بصمت. ومنهم الشهيد محمد عبيد (28 عاماً) ابن بلدة القنطرة الذي لم يكن أحد يعلم بانتسابه إلى الجبهة حتى أنا بالرغم من أنني كنت مسؤولاً عند استشهاده عام 1989 في العيشية». في آخر لقاء بينهما، ترافقا إلى طرابلس قبل أن يفترق عبيد عن بشير بحجة أنه ذاهب لشراء حاجيات. «في اليوم التالي وصلني نبأ استشهاده»، يستذكر بغصة.