هل الوقت اليوم، في ظل انهيار البلد والقطاع التربوي، ملائم لنخطط ونبني مناهج جديدة، أليست خطوة خارج السياق؟
نعم ولا. إذا أردنا أن ننطلق في وضع المناهج كأنّ شيئاً لم يكن، فهذا يشبه تماماً من يضع موازنة عامة ويراعي فيها أن تكون النفقات على قدر الواردات فحسب، في حين أن بناء موازنة فعلية يجب أن يأخذ في الحسبان أحوال الاقتصاد اللبناني، وأوضاع الصادرات والواردات والضرائب وغيرها. فكما أن الموازنة هي خطة اقتصادية، فالمناهج هي خطة تربوية يفترض أن تتضمّن كل التفاصيل التي يعاني منها تطبيق المنهج اللبناني القائم حالياً.

يعني هل يحتاج بناء المناهج إلى توقيت محدّد أو ظروف ملائمة؟
الموضوع هو من يحكم لبنان وهذا سؤال جوهري، وهنا لا أتحدّث عن شخص، إنما عن مجموعة أو قوى أو جهات سياسية لا تزال تفكر مثلاً بالاقتصاد اللبناني في عام 2022، تماماً كما كانت تفكر به في عام 2018 أو في عام 2010. سمعت، أخيراً، أن النائب علي حسن خليل تقدّم باقتراح قانون يقضي بمنع المسّ بالودائع، فهل هذا يكفي؟ ومن هي الجهة التي تتقدّم بالقانون؟ لا يمكن أن نتأمل من الحكم نفسه أن يعيد صياغة مناهج أو ينظر إلى الخسائر التربوية بطريقة مختلفة، وأن يعيد وضع موازنة مختلفة، إلا إذا جرت الاستعانة بأشخاص لا علاقة لهم بالحكم وطُلب منهم أن يقرّروا وأن يطرحوا الموضوع بطريقة أخرى.

الأمين: تعليم التاريخ قضية جوهرية، إما أن نجابهها أو لا...(مروان بو حيدر)


ربما من هنا يمكن أن نفهم السعي لإعادة تعويم مناهج عام 1997 السابقة، ولكن هل هذه المناهج كانت ممتازة وتكمن مشكلتها في السياسيين الذين لم يسمحوا بتنفيذها كما كُتب في وثيقة الإطار الوطني، أم المشكلة هي في المناهج نفسها؟ ولماذا لا تكون لدينا فرصة جديدة مع خبراء جدد؟
إذا سألتِ هذا السؤال للذين وضعوا الإطار الجديد سيقولون لك لقد استعنّا بالخبراء. فالمشكلة، برأيي ليست في الخبراء بل في متّخذ القرار ورؤيته للبنان المستقبل. لا يكفي أن نقول إنه أصبح لدينا خبراء بالتربية نشركهم في المناهج، ولا يكفي أن نحضر خبيراً اقتصادياً ونعيّنه وزيراً، فهذا الأمر يحدث منذ حكومة الرئيس حسان دياب. المشكلة مجدداً هي في من يحكم، سواء أكان اسمه خبيراً أم لا، وما إذا كان يحكم برؤية، أم كان مضغوطاً عليه ليتابع السياسات نفسها. طبعاً هناك مشاكل بنيوية تعتري مناهج 1997، وليسمح لنا أصحاب نظرية أنها كانت عظيمة والسياسيين هم من خرّبها. هذا الكلام فيه تعمية على المشكلة. الأزمة ليست في مناهج 1997 فحسب، إنما في المعضلات التربوية التي راكمناها خلال 25 عاماً، أي منذ عام 1997 حتى اليوم، والتي لا تصلح لها مناهج 1997 حتى لو كانت ممتازة. لدينا إرث متعلق بتعليم التاريخ والتربية المدنية واللغة العربية واللغات الأجنبية والعلوم ناجم عن ممارسات حصلت، وقد أظهرت الاختبارات الدولية هذا الأمر، وتظهره أحوال اللبنانيين في كلّ يوم، وهو أن الكلام على التاريخ أو التربية المدنية كان (حكي بحكي).

أليست هناك خفة في طريقة مقاربة المناهج، بحيث تدار بهذه الطريقة من عدم الوضوح ويُختار لها أشخاص لا يتمتعون بالكفاءات التربوية. هل هذه هي البداية الصحيحة لمشروع مناهج وطنية وتحديداً في بلد مثل لبنان فيه ما فيه من الحساسيات؟
مضى زمن طويل ونحن نقول إننا نحتاج إلى مناهج جديدة أو متحوّلة أو متغيّرة أو معدّلة، واليوم ازدادت وطأة المشاكل أكثر فأكثر. لكن يبدو أن البنك الدولي وافق على تطوير تمويل المناهج، فنشأ «بزنس» معه تدار العقود ويُكلّف أشخاص، وتحضر المنظمات الدولية من اليونسكو واليونيسف. يصبح العمل كأننا أمام بناء مبنى، فنلزّم الباطون لفلان والكهرباء لآخر، وإن كان من حق الخبراء أن ينالوا أتعابهم. ولكن مجدداً المشكلة ليست في الأشخاص إنما في الرؤية وبناء فريق العمل، وما إذا كان يحصل استناداً إلى عقل توزيع العقود لصرف الأموال. شخصياً، شعرت بهذا الأمر عندما ألحّ عليّ الكثيرون، منذ نحو سنتين، من الوزارة، والمركز التربوي، ورئيس المركز التربوي بالانضمام إلى لجنة المناهج، وعندما بحثت عن طريقة تركيبة اللجنة، اكتشفت أنهم يريدون أن أزيّنها فحسب لما أملك ربما من سمعة مهنية وتربوية، باعتبار أن اللجنة مكوّنة بالسياسة، فاعتذرت. لا مانع لديّ بخلق فرص عمل لبعض الأشخاص، ودور الخبير دور أساسي في البلد، لكن أن نتعاطى مع بناء المناهج بكل ما يعنيه ذلك من تنشئة لأبناء لبنان في السنوات العشرين المقبلة، كما لو أننا نبني عمارة على طريقة العقود، ومن دون أي رؤية لما ستكون عليه صورة لبنان فهذا يعني أن هناك شيئاً غلطاً.

من يحرّك أكثر لتطوير المناهج، هل هي الحاجة أم التمويل، خصوصاً أن الحجة المقدّمة دائماً لتبرير السرعة في إنجاز العمل هي «ما معنا وقت وبكرا بيخلص التمويل»؟
الحاجة موجودة طبعاً، ولكن هل تتمّ الاستجابة للحاجة بموجب عقد أو بوجود رؤية تنطلق من أين نحن، وما هي مشكلتنا؟ تستحضرني هنا طرفة عن شخص ذهب إلى الطبيب، وقال له: يا حكيم أنام لا أدري كيف وأستيقظ لا أعرف ما بي، فأجابه الطبيب: خذ دواء في الوقت الذي تريده. وثيقة المناهج مكتوبة بهذه الطريقة. هي لا تحتوي على فكرة أو قضية محدّدة فيها سوى الكلام على الاهتمام بالمتعلمين والمواطن والهوية الوطنية وسوق العمل والريادة، وهذا الكلام يصلح لإدراجه في المناهج في الأردن وسوريا والعراق ومصر والخليج. كيف يكون ذلك، وقد نُشرت، منذ انتفاضة 17 تشرين، ملايين الصفحات عن مشاكلنا، فيما لا نزال نقول إننا نريد أن نهتم بالمتعلّم، كما لو أننا نقول نريد أن نقيس الجدار بالمسطرة.
هذه ليست قضيتنا. علينا أن نقرّر ماذا نريد بالنسبة إلى تعليم التاريخ والتربية المدنية والعلوم، وأن نطرح المشكلة للنقاش، فلماذا مثلاً عجزنا عن وضع منهج للتاريخ؟ شخصياً، لديّ مشروع في هذا الإطار، إذ أرى نفسي مستعداً لبناء منهج تاريخ بعد وضع كل الأفكار الشائعة هنا وهناك جانباً. فلتوضع على الطاولة أفكار بشأن العلوم والتاريخ والتربية المدنية، ولنشخّص قضايانا ولنحاول أن نجد حلولاً. لكنّ المشكلة الدائمة لدينا أننا نبحث عن حلّ وحيد. إذا كانت لدينا مشكلة في الكهرباء مثلاً نحضر بواخر. يا أخي هناك 100 حل، إلا أننا بتنا نعاني الكثير من الاختراعات «الخنفشارية» بموضوع الكهرباء. وهذا اختراع «خنفشاري» بموضوع المناهج.

ماذا عن إسداء مهمة إدارة العمل إلى شخصيتين أساسيتين، هما الرئيس السابق للمركز التربوي للبحوث والإنماء، منير أبو عسلي ومستشار رئيس المركز جهاد صليبا اللذان ليس لهما باع تربوي طويل؟
لا يهمني الأشخاص. المنتج هو الأهم وهو للرمي في سلة المهملات حالياً. ليس لدى البنك الدولي مشكلة أن يتعامل مع الأشخاص والحكام بهذه الطريقة. كل المنظمات الدولية تتعامل بتسويات مع الحكام، لا هي سيئة ولا هي جيدة، لكنها بطبيعة الحال ليست جهة خيرية. حجتنا الأساسية لا تكمن في الاستعانة بهذا الشخص لهذه المهمة، إنما الحجة هي في النص الجيّد.
مناهج 1997 لا تصلح لحل مشكلات راكمناها طوال 25 عاماً


حالياً، لا يمكن بناء منهج على غرار منهج1997، وإن كنت أقرّ بأن أبو عسلي، نجح في المهمة المرسومة يومها، لكنّ السياق كان مختلفاً، وكان محاطاً برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، واستطاع إرساء توازن طائفي في اللجان، وأذكر يومها أنه اتصل بي لأنهم كانوا يحتاجون إلى شخص شيعي في لجنة التربية الوطنية أو المدنية، وهو ما اعتبرته خطأ في المبدأ، أن تأتي بشيعي لمادة التربية المدنية بالذات، ورفضت لأنني لست شيعياً. مع ذلك، جرى توزيع الحصص بالعدل والتساوي بين الأحزاب وبين من ليسوا محسوبين على أحد. ولا يعني ذلك أنه لم يكن بين جميع هؤلاء أشخاص ذوو كفاءة، لكنّ المسألة كانت تحاصصية بامتياز.

ما هي انتظاراتكم من المناهج وعلى ماذا يجب أن يركز الإطار الوطني؟
أقترح العمل على مجموعة قضايا. تعليم التاريخ بالنسبة إلي قضية جوهرية، إما أن نجابهها أو لا نجابهها، لقد هربنا منها في عام 1997 ولا نزال، وما زلنا نتجاهل أن هناك مشكلة ونخشى أن نعترف بها. أما التربية المدنية فنعلّمها في كتاب مستقل ونصرّ على القول إن هناك كتاباً موحداً للمادة.

لكن ثمة من يتحدث عن منهج موحّد وحرية في تأليف الكتب المدرسية؟
لا نقول منهج موحد إنما منهج وطني، لكن حتى مع المنهج الجامع، نواجه تحديات في طريقة المعلم الذي يدخل المواد التي يريدها من فرنسا وإنكلترا أو من إيران أو مصر. ومن قال إن المنهج يجب أن يكون 700 صفحة. أقترح شخصياً أن يكون عبارة عن عدد محدود من الصفحات ولكن أن يتضمن معايير عامة تُستخدم للتدقيق في الكتب المدرسية التي تصدر عن الناشرين. أما أن نصرّ على كتاب موحّد، فنلزّم النص لجهة والصور لجهة ثانية والتمارين لجهة ثالثة على الطريقة البيروقراطية في تأليف الكتب في سوريا أو العراق أو الأردن أو مصر أو السعودية، حيث يعطي موظفون أوامر لمؤلّفين، فهذه طريقة خنفشارية أيضاً بتأليف الكتب المدرسية. تعليم الرياضيات والعلوم والمعلوماتية هو من القضايا أيضاً، وتعليم اللغات الأجنبية لا يجب أن يكون على حساب اللغة العربية. ولا أعلم لماذا قرّروا لسبب ما استبعاد تعليم الفنون، في حين أننا إذا أردنا أن نبني مواطناً صالحاً فبإمكاننا الاكتفاء بتعليمه الموسيقى والرسم. لا نستطيع أن نلقن الفكرة للطلاب. نريد أن نربّيهم. هذا هو الموضوع.