منذ مطلع تموز ولغاية أمس، ارتفع سعر الدولار مقابل الليرة من 28150 ليرة إلى 29800 ليرة، أي بزيادة نسبتها 5.8٪. في هذه الفترة، لم يطرأ سوى تغيير واحد في السياسة النقدية يتعلق بخفض سقوف المضاربات التي كان يقودها مصرف لبنان عبر منصّة «صيرفة». إذ قرّر الحاكم رياض سلامة، منتصف حزيران، وقف السقف المفتوح لشراء الدولارات عبر «صيرفة» وفق التعميم 161، وحصره بمبلغ 500 دولار للأفراد. وهذا يعني أن قدرة مصرف لبنان على الحفاظ على سعر صرف شبه مستقر، باتت أضعف، وأن الارتفاع الذي لا ينتج نسبياً من المضاربات هو نتيجة تلقائية للأزمة لأنه ارتفاع ضمن قفزات صغيرة ثابتة تعكس حالة العجز في ميزان المدفوعات وتقلص الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان.وكان لافتاً أن تصدر إدارة الإحصاء المركزي إحصاءات الأرقام القياسية عن شهر حزيران 2022، أظهرت تضخماً في الأسعار بمعدل 9.2% مقارنة مع شهر أيار، وبمعدل 100٪ مقارنة مع الشهر نفسه من السنة الماضية. أما على صعيد تراكمي، فقد بلغ تضخم الأسعار منذ مطلع 2019 لغاية حزيران 2022، نحو 1090٪.
هذه الأرقام تشير إلى أن النمط التضخّمي المقصود لا يزال مستمراً منذ ثلاث سنوات وسبعة أشهر على وقع القرارات التي اتخذتها السلطة النقدية خلال هذه الفترة، وكانت هذه القرارات محفزاً أساسياً لارتفاع الأسعار. وهذا الأمر لا يستثني الأشهر التي طُبق فيها التعميم 161، إذ صدر هذا التعميم بذريعة الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ما يفترض كبح التضخّم، لكن الاستقرار في سعر الصرف وفي سائر أسعار السلع والخدمات لم يتحقق، بل على العكس كانت المضاربات التي نتجت من هذا التعميم مصدراً أساسياً لهذا التضخّم.
وفي موازاة الأسباب النقدية المحلية المحفزة للتضخّم، كانت هناك محفّزات خارجية، إذ إنه في ظلّ تدخلات مصرف لبنان في سوق القطع بائعاً للدولار في محاولة للحفاظ على استقرار سعر الصرف، سجّلت أسعار السلع الأساسية المستوردة ارتفاعاً في الأسعار انعكس أيضاً على سائر الأسعار. وكان المصدر الأساسي لهذا الارتفاع، هو ارتفاع سعر النفط ومشتقاته وسعر القمح.
عملياً، ما يحصل هو أن إدارة الأزمة بشكلها الحالي ما زالت ممسوكة وفق النهج نفسه الرامي إلى تذويب الخسائر عبر التضخّم، وهو ما يحمّل المجتمع أكلافاً هائلة ولا يعالج مشكلة الخسائر بحدّ ذاتها التي باتت تفوق 70 مليار دولار. فما تسعى إليه هذه الإدارة هو إجبار المجتمع على التكيّف مع الأزمة ونتائجها، وهو أمر بات يحصل بشكل سهل، إذ لا توجد أي مقاومة لارتفاع الأسعار من قوى المجتمع. ففي الأشهر الأخيرة مع بداية الصيف وقبله، كان التضخّم يسير جنباً إلى جنب مع إضراب القطاع العام الذي لم يؤثّر بعد في قوى السلطة وفي توجّهاتها، إذ واصلت هذه القوى امتناعها عن القيام بإجراءات تصحيحية للأجور، إلى جانب امتناعها عن كبح التضخّم الناتج من الاحتكارات التجارية. بهذا المعنى، فإن رفض منح العاملين في القطاع العام تصحيحاً لقدراتهم الشرائية التي ذابت بشكل شبه كلّي، يتزامن مع رفض لمكافحة مساعي الشركات الكبرى والتجار وأصحاب الرساميل لتصحيح أرباحهم على حساب المجتمع، أي أن أولويات السلطة عادت إلى ما كانت عليه قبل الانهيار، وأصبحت أكثر وضوحاً وأكثر توحشاً.