أرخت الأزمة الاقتصادية بظلالها على نواحي الحياة كافة، إلا أنها شدّت الخناق أكثر على المحتجزين قيد التوقيف الاحتياطي والممنوعين من الحرية. «ما في سَوق» هي الجملة التي يخشاها الأهل المنتظرون أمام أبواب قاعات المحاكم وغرف القضاة. كما يخشاها المحامون لأن السَوق حبل نجاة من تعب قد يستمر شهوراً، قبل أن تحدّد جلسة ويُساق المتهم للاستماع إليه للمرة الأولى حتى تسلك القضية مسارها القانوني الطبيعي: إما بتسريح المتهم لعدم وجود دليل على إدانته، أو بتركه موقوفاً مع حق تقديمه إخلاء سبيل بموجب كفالة بعد إجراء الاستجواب.بعد توقيفه احتياطياً لمدة 16 شهراً، أحيل نور (17 عاماً) إلى المحاكمة أمام محكمة جنايات الأحداث بجرائم عدة، فصدر الحكم بالاكتفاء بمدة توقيفه وتركه فوراً ما لم يكن موقوفاً بجرم آخر، ليتبيّن بعد إبلاغ القلم العدلي في سجن رومية بالحكم، أن هناك محضر مخدرات باسم القاصر ويفترض معرفة مصيره وإبراز ما يثبت أنه غير موقوف بسببه.
وبعد المراجعة، تبيّن أن هذا المحضر الملحق بالدعوى الأساسية فُصل عنها وأحيل إلى قاضي التحقيق في بعبدا بجرم ترويج واتجار بالمخدرات. لم نتمكن من سَوق الموقوف لحضور جلسة استجواب أولى لإخلاء سبيله، فقرر قاضي التحقيق بعد مراجعة الملف أن يتركه من دون استجواب نظراً إلى مدة توقيفه الطويلة وإلى حيثيات الملف التي تبيّن أن لا علاقة للموقوف الحدث بها.
أحيل الملف لأخذ رأي النيابة العامة الاسئتنافية، التي رفضت الطلب قبل يوم من عطلة عيد الأضحى، وحدد قاضي التحقيق موعد الجلسة بعد العطلة مباشرة وإجراءها عبر تطبيق zoom في حال تعذّر السوق. وبدأت معركة تحقيق هذا الاتصال «المعجزة» في بلد مثل لبنان، حيث المحامي والقاضي ومندوبة الأحداث وعناصر الدرك في مبنى سجن الأحداث يخوضون معركة سباق مع الوقت، فلا كهرباء في سجن رومية عند الساعة الثالثة ظهراً، الأمر الذي يؤجل الجلسة أسبوعاً إضافياً.
هكذا تُعرقل بديهيات سير العدالة في لبنان وتُنتهك حقوق الإنسان ويُترك الموقوفون ظلماً لشهور قيد التوقيف الاحتياطي من دون مثولهم أمام قاضٍ، لأسباب لوجستية لم يعد مقبولاً غيابها في هذا الزمن، رغم إنفاق ملايين الدولارات التي تدفع هبات ومساعدات لجمعيات تدّعي العمل في خدمة حقوق الإنسان.
يبقى المحظيون والمدعومون مرتاحين في جميع الظروف، فلا يخفى على كل العاملين في الشأن القضائي أن من يملك المال والعلاقات يملك سيارة تنقله إلى جلسة الاستجواب. وبات أمراً مبرراً أن يقول المحامي أو الموقوف لعناصر قوى الأمن المكلفين بنقل السجين «بعبّيلكم بنزين على حسابي» كي يضمن مثوله أمام القاضي ولا يُترك لشهور قبل أن يساق إلى جلسة استجواب أولى شكلية وأساسية، ليتمكن من ممارسة حقه في تقديم طلب إخلاء سبيل.
لم نكن قبل الأزمة أفضل حالاً، لكننا بتنا اليوم أمام أزمة من نوع آخر تجعل الفساد قاعدة، واستيفاء الحق بالذات قاعدة، وعدم احترام القانون قاعدة. وربما لم يعد قوس العدالة عادلاً حتى لأهله، فكيف سيحكم بالعدل من لا عدل في ظروف عمله؟