شكلت قضية حضانة Garderêve وقضية مقتل الطفلة لين صدمة للمجتمع اللبناني، نتيجة العنف الوحشي تجاه أطفال لم يرتكبوا أيّ ذنب سوى أنهم وُجدوا في المكان الخطأ مع أشباه بشر، وأنهم لا قدرة لهم ولا قوة للدفاع عن أنفسهم بمواجهة أشخاص من المفترض أنهم مصدر للأمان والرعاية. من يطّلع على تفاصيل القرارَين الظنيَّين الصادرين في القضيتين يدرك مدى البشاعة التي وصل إليها المجتمع، ولا سيّما في قضية الطفلة لين، من دون التقليل من خطورة الجريمة المرتكبة بحق أطفال الحضانة. فالإمعان في ارتكاب الجريمة وإخفائها ومحاولة طمس الحقائق واشتراك الأمّ والجدّة والجدّ بالتستّر على المجرم، وصولاً إلى وفاة الطفلة بسبب الامتناع عن إسعافها أمر لا يتصوّره عقل ولا منطق

أصدرت قاضية التحقيق في جبل لبنان رانيا يحفوفي قرارها الظني بملف حادثة حضانة Garderêve في وقت يعدّ قياسياً في ظل العطلة القضائية وما يعانيه السلك القضائي من تأخر في الإجراءات بشكل عام.
وورد في الفقرة الحكمية الآتي:
«نحن قاضي التحقيق في جبل لبنان، نقرر وفقاً لمطالعة النيابة العامة وخلافاً لها:
1- اعتبار فعل المدعى عليها دجيني بشارة الخوري من قبيل الجناية المنصوص عليها في المادة 201/547 من قانون العقوبات والظنّ بها بمقتضى الجنحة المنصوص عليها في المادة 257/559/554 من قانون العقوبات.
• الظنّ بالمدّعى عليه طوني طوني مهنا بمقتضى الجنحة المنصوص عليها في المادة المشار إليها أعلاه من قانون العقوبات.
• الظنّ بالمدّعى عليها جومانا بو سعيد بمقتضى الجنحة المنصوص عليها في المادة 567/ عقوبات ومنع المحاكمة عنها ببقية الجرائم المسندة إليها لعدم تحقّق عناصر بحقها، واتباع الجنحتين بالجناية للتلازم.
2ـ تخلية سبيل المدّعى عليها جومانا بو سعيد بالنظر إلى ماهية الجرم ومدة التوقيف، وردّ طلب تخلية سبيل المدعى عليه طوني مهنا، كما ردّ طلب تعيين طبيب شرعي للمدّعى عليها دجيني الخوري.
3- إيجاب محاكمتهن أمام محكمة الجنايات في جبل لبنان، وتدريكهن الرسوم والنفقات».
رغم اعتراض أهالي الأطفال وامتعاضهم من الفقرة الحكمية الثانية التي قضت بإخلاء سبيل المدّعى عليها جومانا بو سعيد لأنهم يعدّون التقاطها للمقاطع وسكوتها لأكثر من ستة أشهر عن جريمة تُرتكب بحق أطفالهم مشاركة بالجرم وليس مجرد تستّر، إلا أنه لا يمكن إنكار أن هذا القرار جاء في موقعه إن كان لناحية السرعة في إصداره أو لناحية المواد التي ظن بها في حق المدّعى عليهن، ولا سيّما قرار رد طلب تعيين طبيب شرعي للمدّعى عليها دجيني الخوري، الذي قطع الطريق أمام محاولة استفادة الأخيرة من عذر تخفيفي بعد الإيحاء بأنها تعاني مشاكل نفسية.
تداولت وسائل إعلامية أخيراً خبر صدور قرارين عن الهيئة الاتهامية في جبل لبنان برئاسة القاضي كمال نصّار، في ما يتعلق بقضية الحضانة، قضى الأوّل بفسخ قرار قاضية التحقيق في جبل لبنان رانيا يحفوفي السالف الذكر لجهة إخلاء سبيل جومانا بو سعيد، وبالتالي إبقائها موقوفة. وقضى الثاني بتصديق قرار عدم إخلاء سبيل صاحبة الحضانة وإبقائها موقوفة أيضاً.
تشكل هذه القرارات، من حيث مضمونها والمدة التي صدرت فيها، بارقة أمل في ظل التأخر في الإجراءات في ملفات أخرى. ويعوّل أن يستمر العمل على هذا المنحى أثناء السير في المحاكمة، وصولاً إلى إصدار حكم مبرم يكون رادعاً لكل من تسوّل له نفسه من العاملين في هذه القطاعات الحساسة ارتكاب أي جرم مماثل أو حتى ارتكاب أي مخالفة مهما صغر حجمها. كما يكون محفّزاً لأصحاب هذه المراكز والقيّمين عليها للتقيّد بالإجراءات القانونية المفروضة عليهم والتدقيق في مراقبة العاملين لديهم واختيارهم وفق معايير تناسب الفئات المستهدفة. كذلك يشكل صافرة إنذار في وجه المسؤولين والمؤسسات الحكومية المرتبطة بشكل مباشر كوزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الصحة وغيرها لضرورة التنسيق وتشديد الإجراءات الرقابية على هذه المؤسسات للتأكد من توفر الشروط اللوجستية والبشرية والصحية عند التأسيس وخلال فترة العمل من خلال الرقابة الدورية المفاجئة بشكل مستمر.
كما نأمل أن يُعتمد هذا النهج في جميع الملفات المطروحة على القضاء وألّا تكون الإجراءات الحاسمة والسريعة محصورة بالملفات التي يسلّط الضوء عليها إعلامياً.

«يُعاقب بالإعدام»
شكّل القرار الظنّي الذي أصدرته قاضية التحقيق الأولى في الشمال سمرندا نصّار في قضية وفاة الطفلة لين طالب صدمة لناحية تفاصيل الجريمة التي ارتكبت بحق الطفلة من أقرب أقربائها وتركها تموت دون إنقاذها والتستّر من قبل الأم التي لم تحاول حتى إسعاف ابنتها، رغم تأكيد الأطباء أن التدخل الطبي السريع كان من الممكن أن ينقذ حياتها.
وبناءً على التحقيقات والدلائل، أصدرت القاضية نصّار قرارها بالظن بخال الطفلة بالمواد 503 و504 و549 من قانون العقوبات، والجد والجدة والوالدة بالمادة 549.

المواد القانونية
تنصّ المادّة 503 من قانون العقوبات على أنّ «من أكره غير زوجه بالعنف والتهديد على الجماع، عوقِبَ بالأشغال الشاقة خمس سنوات على الأقل، ولا تنقص العقوبة عن سبع سنوات إذا كان المعتدى عليه لم يتمّ الخامسة عشرة من عمره».
فيما تنصّ المادّة 504 على أن «يُعاقب بالأشغال الشاقّة لمدّة خمس سنوات على الأقل من جامع شخصاً غير زوجه لا يستطيع المقاومة بسبب نقص جسدي أو نفسي أو بسبب ما استعمل نحوه من ضروب الخداع، ولا تنقص العقوبة عن سبع سنوات إذا كان المعتدى عليه لم يتمّ الخامسة عشرة من عمره».
أما المادّة 549 فتنصّ على أنّ «يُعاقب بالإعدام على القتل قصداً إذا ارتكب: عمداً، تمهيداً لجناية أو تسهيلاً أو تنفيذاً لها أو تسهيلاً لفرار المحرّضين على تلك الجناية أو فاعليها أو المتدخّلين فيها أو للحيلولة بينهم وبين العقاب، على أحد أصول المجرم أو فروعه».

ما يلي القرار الظني؟
يباشر قاضي التحقيق إجراءاته وتحقيقاته ليصل بها إلى قرار ظني ليجري الظن بالمدّعى عليه حول ماهية الجرم المرتكب. وإذا عدّ قاضي التحقيق في قراره أن الفعل المدّعى به من نوع الجناية، يحيل الملف إلى النيابة العامة لتودعه الهيئة الاتهامية.
تضع الهيئة الاتهامية يدها بصورة موضوعية على الملف، إذا رأت أن الدعوى مكتملة التحقيق ولا جدوى من التوسّع فيه، تصدر قرارها الاتهامي إما بمنع محاكمة المدّعى عليه وإطلاق سراحه إذا تبيّن أن الأدلة غير كافية لاتهامه بالجناية، أو باعتبار الفعل جنحة أو مخالفة فتحيل الملف إلى القاضي المنفرد الجزائي أو تتخذ قراراً باتهام المدعى عليه إذا تبيّن لها أن الوقائع والأدلة كافية لاتهامه وتحيله إلى محكمة الجنايات.
وللهيئة الاتهامية، بصرف النظر عما انتهى إليه قرار قاضي التحقيق المحال إليها، أن تجري أي عمل تحقيقي إضافي تلقائياً أو بناءً على طلب النائب العام أو المدّعى عليه أو المدّعي الشخصي.
في المرحلة الأخيرة، يحال الملف إلى محكمة الجنايات حيث تجري المحاكمة من خلال جلسات علنية يستجوب فيها المتهمين مجدداً، بالإضافة إلى الشهود ليصدر الحكم إما بالبراءة أو بالإدانة.
لإجراءات قضائية حاسمة وسريعة غير محصورة بملفات يسلّط الضوء عليها إعلامياً


إن التعامل مع هذا الملف بدءاً من النيابة العامة الاستئنافية، مروراً بتعاطي جميع الأجهزة الأمنية والقضائية، وصولاً إلى القرار الظني الصادر عن قاضي التحقيق يدلّ على حرفية عالية وتحمّل للمسؤولية كوننا في عطلة قضائية، والجسم القضائي ككل يعاني مشكلات وتكدّساً في الملفات.
لكن الأسئلة تطرح نفسها: ماذا بعد القرار الظني؟ هل سيستمر سير المحاكمات على الوتيرة نفسها؟ هل سيصدر الحكم النهائي بسرعة وينال المتّهمون عقوبتهم القصوى؟ وفي حال صدور حكم الإعدام، هل سينفّذ؟ علماً أن آخر حكم إعدام نُفّذ في لبنان كان عام 2004.
في الواقع، من المهم تدخل القضاء بسرعة قصوى وبحسم، ولا سيّما في الجرائم المشابهة لجريمة أطفال الحضانة ومقتل الطفلة جراء الاغتصاب، إلا أن الأهم هو التدخل الاجتماعي والأخلاقي الوقائي للحدّ من ارتكاب مثل تلك الجرائم من خلال تنمية مفهوم القيم التي ترعى الحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، والتدخل التربوي الصحيح من قبل الأُسرة والمدرسة لإنتاج فرد إيجابي. فالحدّ من الجريمة مسؤولية كل أفراد المجتمع، كلٌّ وفق موقعه ووظيفته والرسالة التي يقدّمها.