قد تكون أسباباً «معقولة» تلك التي دفعت رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي إلى الطلب من المجلس النّيابي سحب اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي، وإعادته إلى اللجان للأخذ بالملاحظات التي اقترحها وزير العدل هنري خوري ومجلس القضاء الأعلى. لكن يتبيّن، بعد التدقيق، وبعدما تابعت «القوس» حيثيات النقاشات التي جرت في لجنة الإدارة والعدل على امتداد السنة المنصرمة، أنّ هذه الأسباب قد لا تكون معقولة ولا مقبولة. فالتوافق اللبناني حول هذه المسألة ليس متوافراً ولا توجد رغبة صادقة بإقرار آليات استقلالية القضاء.ففي 3/1/2023، عقدت لجنة الإدارة والعدل جلسة برئاسة رئيسها النائب جورج عدوان وحضور عدد من النواب لإعادة درس اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي، على ضوء ملاحظات وزارة العدل. وقد بدأت الجلسة بالإطلاع على ملاحظات الوزير حول عدد من الأحكام التي تضمنها اقتراح القانون الذي سبق للجنة أن درسته وأقرته معدلاً، بحضور وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى ونقابتي المحامين في بيروت وطرابلس، وأحالته إلى الهيئة العامة. لذلك، استغرب بعض النواب طلب رئيس الحكومة لأن وزارة العدل حضرت كل جلسات اللجنة أثناء درس الاقتراح، كما أن خوري طلب، في جلسة الهيئة العامة قبل نحو عام، مهلة شهر لإبداء الملاحظات، وقد مرّ نحو سنة قبل إبدائها.


ويمكن تصنيف الملاحظات بين أساسية تتعلق بالتشكيلات القضائية وتشكيل مجلس القضاء الأعلى وطريقة انتخاب أعضائه، وأخرى فرعية. ورأى بعض أعضاء اللجنة أن عدداً من هذه الملاحظات يضرب استقلالية القضاء. وبعد التداول بين أعضاء اللجنة، تقرر تكليف أحد أعضاء اللجنة تلخيص الملاحظات ووضع تقرير بها على أن تبدأ اللجنة درسها بحسب كل مادة متعلقة بها.
وفي 17/1/2023، انعقدت لجنة الإدارة والعدل لإعادة البحث في طريقة تشكيل مجلس القضاء الأعلى على ضوء ملاحظات وزارة العدل، وتبين وجود أكثر من رأي حول عدد الأعضاء المنتخبين والحكميين. إذ اقترحت وزارة العدل وجود ثلاثة أعضاء حكميين وانتخاب أربعة أعضاء على أن يتولى الأعضاء السبعة انتخاب الأعضاء الثلاثة المتبقين. وخلال النقاش، كان الرأي الغالب بانتخاب كامل أعضاء المجلس، على أن توزّع المقاعد على كل مستويات المحاكم.
أخيراً، بعد إعادة القانون إلى اللجان، كانت ملاحظات وزير العدل ترى بوجوب انتخاب أربعة أعضاء، إضافة إلى الثلاثة الحكميين (رئيس مجلس القضاء الأعلى والنائب العام التمييزي ورئيس هيئة التفتيش القضائي (يعيّنهم مجلس الوزراء)، ثم يقوم الأعضاء السبعة بترشيح أسماء ستّة قضاة، ليختار مجلس الوزراء ثلاثة منهم يعينون بمرسوم. أي، بالخلاصة، يعيّن مجلس الوزراء ستة من الأعضاء العشرة كونه هو من يعين الأعضاء الثلاثة الحكميين، فتكون النتيجة 60% للحكومة و40 في المئة للقضاة، أي استقلالية بنسبة لا تتجاوز 40%، ما يخالف المادة 20 من الدستور التي تقول إن القضاة مستقلون لأن الاستقلالية ليست جزئية.
وإذا كان التوجّه النّيابي يأخذ منحى مختلفاً عما ترغب فيه وزارة العدل، وهو أمر يجوز للمجلس أن يفعله، كان الأجدى إقرار القانون. لكن المشكلة هي في غياب رئيس الجمهورية، لأن نشر القانون وإصداره يستدعي موافقة الرئيس الذي يُصدر القوانين وفقاً للمهل المحددة في الدستور بعد أن يوافق عليها المجلس عملاً بمنطوق المادة 51 من الدستور، ووفقاً لأحكام المادة 56 منه التي تنص على أن رئيس الجمهورية يصدر القوانين التي تمت الموافقة النهائية عليها في شهر بعد إحالتها إلى الحكومة ويطلب نشرها. أما القوانين التي يتخذ المجلس قراراً بوجوب استعجال إصدارها، فيجب عليه أن يصدرها خلال خمسة أيام ويطلب نشرها.
المجلس النيابي هو المشترع الذي يضع القوانين التي ينبغي على الحكومة الالتزام بها، وليس من موجباته الحصول على موافقتها


أما القول إن وزير العدل فوجئ بأن المجلس النيابي لم يأخذ بجميع ملاحظاته، فهو مردود لأنه يماثل القول إن إقرار أي قانون يستدعي حتماً موافقة الحكومة، وهذا مرفوض وغير منطقي ويتعارض مع استقلال السلطة التشريعية عن السلطة التنفيذية. فالمجلس النيابي هو المشترع الذي يضع القوانين التي ينبغي على الحكومة الالتزام بها، وليس من موجبات المجلس النيابي الحصول على موافقة الحكومة، باستثناء موجب التعاون بين السلطات الذي أجازه الدستور.
والدستور واضح في مادته السادسة عشرة بأن السلطة المشترعة تتولاها هيئة واحدة هي مجلس النواب. كما يحدد أصول الممارسة التشريعية السليمة وموقف الحكومة من ذلك، إذ أجاز في مادته التاسعة عشرة لرئيسي الجمهورية والحكومة حق طلب إبطال القوانين أمام المجلس الدستوري (يعود حق مراجعة هذا المجلس في ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين إلى كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء أو إلى عشرة أعضاء من مجلس النواب، وإلى رؤساء الطوائف المعترف بها قانوناً في ما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني). كذلك أجاز الدستور في مادته السابعة والخمسين لرئيس الجمهورية، بعد إطلاع مجلس الوزراء، حق طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحددة لإصداره، ولا يجوز أن يرفض طلبه. وعندما يستعمل الرئيس حقه هذا يصبح في حل من إصدار القانون إلى أن يوافق عليه المجلس بعد مناقشة أخرى في شأنه، وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً، وفي حال انقضاء المهلة من دون إصدار القانون أو إعادته يُعتبر نافذاً حكماً ووجب نشره.
وفي غياب الرئيس، يحل محله مجلس الوزراء بموجب المادة 62 من الدستور، ففي حال خلو سدة الرئاسة لأي علة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء، وبما أن الحكومة برئاستها ووزير عدلها يرفضون هذا القانون، وسيحتفظون بحق طلب إعادة النظر بالقانون العتيد، سيكون الحل «اللبناني» هو عدم إقراره راهناً.
إذاً المعضلة تقع في التوافق السّياسي حول نقطة مهمة هي: «استقلالية القضاء». في المحصّلة، فإنّ الساسة اللبنانيين لم يتفقوا على وجود قضاء مستقلّ.