احتجّت بعض النساء في 10/4/2019 بسبب منع المحجّبات من أن يصبحن قاضيات، وبعدها اعتصمت طالبات في الجامعة اللبنانية أمام مقرّ وزارة العدل في بيروت مطالبات بإنهاء التمييز القائم ضد المرأة المحجّبة عبر منعها من دخول معهد الدروس القضائية. وتحدثت المحامية أماني سعد عالجي عن تجربتها قبل 15 سنة في رفض طلبها الدخول الى معهد الدروس القضائية لأنّ العُرف يمنع دخول المحجّبات الى السلك القضائي.
القانون لا يميّز المحجّبات
تَحرمُ السلطة الفتاة المحجّبة من صيرورتها قاضية بذريعة حجابها الذي ترتديه، واعتباره رمزاً دينياً يمسُّ بحياد القضاء اللبنانيّ واستقلاليّته. وحيث إنّه، استناداً إلى مبدأ هرميّة القاعدة القانونيّة، فإنّه وبكلّ تأكيدٍ، يتفوّق الدستور والمعاهدات الدوليّة والقانون على الأعراف المطبّقة من قبل الشعب اللبنانيّ. هذه القاعدة الأساسيّة ندرُسُها في السنة الأولى عند دخولنا كليّة الحقوق والعلوم السياسيّة.

(أرشيف ــ الأخبار)

فقد نصّت المادة 12 على ما يأتي: «لكلّ لبناني الحق في تولّي الوظائف العامّة، لا ميزة لأحد على الآخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة حسب الشروط التي ينصُّ عليها القانون. وسيوضع نظامٌ خاصٌ يضمن حقوق الموظّفين في الدوائر التي ينتمون إليها». وذكرت المادة 60 من قانون تنظيم القضاء العدلي التالي: «ينظّم مجلس القضاء الأعلى مباراة الدخول الى المعهد محدّداً المواد التي تجرى عليها ومعدّل علامات القبول. كما يعيّن اللجنة الفاحصة في بدء كل مباراة من القضاة الذين يختارهم لهذه الغاية». وبحسب المادة 61 من القانون عينه، والمادة 9 من نظام مجلس شورى الدولة، لم يتم اشتراط عدم ارتداء الحجاب كشرط للتأهّل قبل الانتساب.
تعليقاً على هذه المواد، يتبيّن أولاً أنّ الدستور كرّس وبشكلٍ صريح مبدأ المساواة بين اللبنانيين كافةً، فلا تفضيل لأحدهم على الآخر، ولا يُؤخذ إلا بالكفاءة والجدارة، هذا بالنسبة إلى الوظائف العامّة.
لم تذكر هذه القوانين إطلاقاً منع الحجاب، وبالتالي عندما تُجري الفتاة المحجّبة المستوفية لكامل الشروط المذكورة - وتكون متفوّقة أكاديميّاً وعمليّاً - المباراة الشفهيّة وتُرفَض، فهذا انتهاك فاضحٌ لهذه القوانين، وظلمٌ بلباسِ العدالة!
المعاهدات الدوليّة الموقّعة والمصدّقة من قبل الجمهورية اللبنانية تتفوّق على القوانين والأعراف المحليّة. إضافةً إلى ذلك، نصّت المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 والتي أعيد تأكيدها في العهد الدولي الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسيّة لعام 1966 في المادة 18 أيضاً، على أنّه «لكلّ إنسان حقٌّ في حريّة الفكر والوجدان والدّين ويشمل ذلك حرّيته في أن يدين بدين ما، وحرّيته في اعتناق أي دين أو معتقد يختار».
وأكّدت الفقرة 3 من الإعلان المذكور على أنه «لا يجوز إخضاع حريّة الإنسان في إظهار دينه أو معتقده، إلا للقيود التي يفرضُها القانون والتي تكون ضروريّة لحماية السلامة العامّة أو النظام العام أو الصحّة العامّة أو الآداب العامّة أو حقوق الآخرين وحرّياتهم الأساسيّة». فضلاً عن ذلك، تبنّت الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة إعلان عام 1981 الذي – رغم أنه لا يتمتّع بالصّفة الإلزاميّة - يعدّ أهم تقنين معاصر لمبدأ حريّة الديانة والمعتقد. وقد ذكرت المادّة 4 منه أنّ على الدول ومؤسّسات المجتمع المدني أن تتخذ ما يلزم من تدابير لمنع واستئصال أيّ تمييز على أساس الدين أو المعتقد، ومنها:
"أ- اتخاذ ما يلزم من تدابير في جميع مجالات الحياة المدنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة.
ب -سَنّ أو إلغاء تشريعات لمنعِ التمييز إن لزم الأمر.
ج- اتخاذ جميع التدابير الملائمة لمكافحة التعصّب القائم على أساس الدّين أو المعتقدات الأخرى في هذا الشأن".
في السّياق ذاته، ذكرت المادّة 2 الفقرة الثالثة من العهد الدوليّ الخاص بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة ما يأتي: "تتعهّد كلُّ دولة طرف في هذا العهد بأن تكفل:
"أ- توفير سبيل فعّال للتظلّم لأيّ شحص انتُهكت حقوقه أو حرّياته المعترف بها في هذا العهد، حتّى لو صدر الانتهاك عن أشخاص يتصرّفون بصفتهم الرّسميّة.
ب- لكل مُتظلّم على هذا النحو أن تبتّ في الحقوق التي يدّعي انتهاكها سلطة قضائيّة او إداريّة أو تشريعيّة مختصّة، أو أيّة سلطة مختصّة أخرى ينصُّ عليها نظام الدّولة القانوني، وبأن تُنمّى إمكانيّات التّظلّم القضائي.
ج- قيام السّلطات المختصّة بإنفاذ الأحكام الصّادرة لمصالح المتظلّمين".

لا علاقة للحجاب في العمل القضائي
وكان مؤتمر الأمم المتّحدة السادس لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين قد طلب، في قراره رقم 16، من لجنة منع الجريمة ومكافحتها أن تُدرج ضُمنَ أولويّاتها وضع مبادئ توجيهيّة تتعلّقُ باستقلال القضاة واختيارهم وأعضاء النّيابة. وعليه، «يتعيّن أن يكون من يقع عليهم الاختيار لشغل الوظائف القضائيّة أفراداً من ذوي النّزاهة والكفاءة، حاصلين على تدريب ومؤهّلات قانونيّة مناسبة. ويجب أن تشتمل أي طريقة لاختيار القضاة على ضمانات ضِدّ التّعيين في المناصب القضائيّة بدوافع غير سليمة، ولا يجوز عند اختيار القضاة أن يتعرّض أي شخص للتمييز على أساس العنصر أو اللّون أو الجنس أو الدين أو الآراء السّياسيّة أو غيرها من الآراء، أو المنشأ القومي أو الاجتماعي، أو الملكيّة أو الميلاد أو المركز، على أنّه لا يُعتبر من قبيل التمييز أن يشترط في المرشّح لوظيفة قضائيّة أن يكون من رعايا البلد المعنيّ».
الحجاب ليس رمزاً دينيّاً، بل جزء لا يتجزّأ من العقيدة الإسلاميّة التي يؤمن بها المسلمون ويُطبّقُون شريعتها، وبالتالي فإنّ أيّ طالبة للحقوق من حقها أن تتمتّع بكامل حقوقها وأن لا تتجرّد منها أو من بعضها لأنها محجّبة.
لذلك، فإن رفض البعض لفكرةِ وجود الحجاب على مقاعد السّلك القضائي ليس إلا دلالةً على عدم تقبّل العقيدة الأخرى، وعدم احترام لحريّة المعتقد ولشريحة كبيرة من المجتمع اللبناني. فلا شيء يمنع الفتاة المحجّبة مع التزامها وتديّنها من أن تكون مثالاً على تطبيق القانون وتنفيذه والأكثر تحصيناً لإصدار القرارات بطريقة شفافة وغير خاضعة لآراء شخصيّة وسياسيّة.
أيضاً، لا تسمح النّصوص الدّوليّة لأي سلطة بفرض قيود على حرّيّة إظهار المعتقد الدّيني إلا ما ينصّ عليه القانون. أمّا في حالتنا هذه، فلا وجود لأساس قانونيّ يبيحُ هذه التجاوزات. كما لا يمكن اعتبار أنّ الحجاب يشكّل خطراً جسيماً على النظام العام أو الآداب العامّة أو أنّه ينتقصُ من حقوق الآخر وحرّيّاته.
وإلى كلّ ما تمّ ذكره، فهذه النّصوص تفرضُ على الدّول المباشرة باتخاذ كامل الإجراءات اللازمة، كي تستطيع الفتاة المحجّبة التظلّم في حال انتهاكهم لحرّيّاتها وحقوقها المنصوص عليها في هذا العهد تحديداً، ولا سيّما أنّنا نتحدّث عن المادة 18 أي حرّيّة الدّين والمعتقد.

مقارنة بين لبنان ودول عربيّة وأجنبيّة
لقد برزت قاضيات محجّبات في دول أجنبية ذات الأكثريّة المسيحيّة وفي دول أجنبيّة ذات الأكثريّة الإسلامية، وما زال لبنان يمنع وجودهنّ في السلك القضائي، بحجّة انحيازهنّ واعتبار الحجاب رمزاً دينياً، وهذا مناقض لقاعدة وجود قاضيات محجّبات بموافقة مسيحيّة أو إسلامية في دول أخرى. ومن هذه الحالات، نستعرض:
• رنا ضاهر: أول قاضية لبنانيّة محجّبة في نيو ساوث ويلز، تمّ تعيينها بتاريخ 12/05/2022 في نظام المحاكم الأكثر ازدحاماً في الولاية وبدأت مهامها بالفعل حيث حلّت محل قاض انتهت ولايته.
• رافيا أرشد: ذات الأصول العربيّة، تمّ تعيينها نائبة قاضٍ لدى مقاطعة في دائرة ميدلاندز بإنكلترا بعد 17 عاماً من العمل في مجال القانون. وهي حاصلة على بكالوريوس في القانون من جامعة أكسفورد، وماجستير في القانون الدولي من جامعة ليدز، ودبلوم في الفقه الإسلامي.
• نادية القحف: تسلّمت هذه السيدة السورية منصبها كقاضية محجّبة في ولاية نيوجيرسي بعدما رشّحها حاكم الولاية "فيل مورفي" للمحكمة العليا الأميركية، وحتى إنها أدّت قسمها وفقاً للشريعة الإسلامية.
• ترأسّت قاضية تركية محجّبة لأول مرة في تركيا جلسة في محكمة الدرجة الأولى في قصر العدل بإسطنبول. ورفع المجلس الأعلى للقضاة حظر ارتداء الحجاب المفروض على القاضيات بتاريخ 04/11/2015.

الواقع والممارسات العمليّة
رغم الظلم المتمادي بحق المحجّبات بمنعهن من دخول السلك القضائي، مع ما يستتبعه ذلك من ضربٍ للحقوق المكرّسة دستوراً: كحريّة المعتقد والحق بالوصول الى الوظائف العامة من دون تمييز، لم تتحرّك الجمعيات المطالبة بحقوق المرأة الناشطة بقوة في لبنان. بل نظّم طلاب كلية الحقوق في الجامعة اللبنانيّة، الفرع الخامس، عام 2019 أمام وزارة العدل تحرّكاً رفعوا آنذاك لافتاتٍ وشعارات من قبيل "حجابي ليس مانعاً لعدالتي"، "رجاحة العقل في الرأس وليست في غطائه"، "حجابي لا يلغي حقوقي"... الخ.
لا شيء يمنع المحجّبة مع التزامها وتديّنها من أن تكون مثالاً على تطبيق القانون وتنفيذه والأكثر تحصيناً لإصدار القرارات بطريقة شفافة وغير خاضعة لآراء شخصيّة وسياسيّة


يؤكّد وزير العدل السابق ألبير سرحان، في تصريح عام 2019، تعقيباً على تحرّك الطلاب آنذاك، أن "لا مانع قانونيّاً أو عرفياً لدخول المحجّبة إلى السلك القضائي، إنّما المعيار هو النجاح". فإذا كانت الأمور على هذا النحو، أليس من الغريب عدم وجود امرأة محجّبة في السلك القضائي في لبنان؟ وهل يُعقل أنّ جميعهن غير كفوءات؟ تأتي الإجابة واضحة على لسان وزير العدل السابق شكيب قرطباوي، الذي رأى في حديث تلفزيوني في 8 آذار 2019 أن «لا وجود لقاضٍ يرتدي الصليب، وعلى القاضية ألا تعطي انطباعاً بأنّها مع أحد المتقاضين ضد الآخر تبعاً لطائفته. العرف معتمد منذ سنوات، وهو منطقي ويُساعد في منع التمييز بين القضاة، فأيّ تمييز بين قاضٍ وآخر فيه أذية للقضاء».
بعد استعراض القضيّة، يبقى ما نودّ طرحه ختاماً:
1- كيف سيكون في حال ارتدت المرأة القانونيّة حجابها بعد اجتيازها المباراة إلى السلك القضائي؟
2- في حال حصل ما أوردناه، وبما أنّه لا يوجد أي سند قانوني لملاحقتها في هذا الصّدد، فهل يستطيع مجلس القضاء الأعلى كمرجع أن يشكّك بأهليّة هذه القاضية؟
3- ولنفترض حصول ذلك، هل سنكون أمام قضيّة رأي عام؟

* أستاذ جامعي ومستشار في الأحوال الشخصيّة



أحكام الشّريعة تعتمد الكفاءة
المرأة في المذهب السنّي يمكنها تولّي مناصب الولاية الخاصة، مثل نائبة أو وزيرة أو أي منصب آخر، تكون فيه مسؤولة عن الشعب والدولة. إلى ذلك، يؤكّد المفتي الجعفري الشيخ أحمد طالب وجود اجتهادات فقهيّة حديثة لدى الشيعة، تسمح للمرأة بدخول السلك القضائي، وحتى إنّها تستطيع أن تصبح قاضية شرعيّة، طالما أنّها تمتلك المؤهّلات العلميّة. فالمعيار عند الطائفة الشيعية هو الكفاءة، بقطع النظر عن جنس الأشخاص، بالإضافة إلى كفاءة المرأة أن تتصدّر الاجتهاد الفقهي.
إنّ التبجّح بأنّ مؤهّلات القاضي هي كمال الرأي وتمام العقل والفطنة، وأنّ المرأة ضعيفة الرأي، تغلب عليها العاطفة، فلا يُؤخذ على الإطلاق. ولمروّجي أنّ عاطفة المرأة يمكن أن تمنعها من إصدار حكم بالإعدام أو حضور تنفيذه وغيره، تردّ عليه القاضية الأردنية المسلمة تغريد حكمت بأنّ العاطفة ليست صفة سيّئة، فالمرأة ذات القرار المتّزن هي التي تكون لها لمسة إنسانيّة أمام بعض القضايا.